خطل موقف الوقوف وراء الجيش باعتباره المؤسسة القومية

 

تغيرات الواقع لثلاثين عامًا نزعت كل حيدة عن المؤسسة فاستوت بالمليشيا

فكرة صغار ضباط المؤسسة كمهدي منتظر أضغاث حلم المواطن المغلوب

 

سمير شيخ إدريس

 

دفعت الحرب السودانية بالمواطن نحو أتون الجحيم وتقلبت مراقد أفكاره ومواقفه وفقًا لما لاقاه من هلاك وهوانٍ، وبرزت محاكم تفتيش الضمائر لكل موقف يتبناه المواطن تجاه طرفي الحرب، وعلى الرغم من أن الموقف الطبيعي لأي مواطن صاحب وعي وطني أن لا ينحاز لمليشيا مجرمة فرضها عليه الطرف الآخر الذي كان يكيل لها المدح، وفتك ببندقيتها بآلاف المواطنين حتى الأطفال الذين طالبوا بحل المليشيا إبان شهر عسلها الطويل مع الجيش ذاته الذي صار يتوعدها بالدحر والهلاك الآن، ويصفها بالصفات ذاتها التي قتل كل من قال بها سابقًا،  لذلك أصبح من الطبيعي أن يتبنى قطاع كبير من المواطنين موقفًا تجاه هذه المؤسسة الحربائية من جهة ومولود رحمها القاتل من جهة أخرى، وهو الموقف المنادي بـ(لا للحرب) على اعتبار أن الفرق بين الطرفين فرق درجة لا معيار، وأن دوافع الحرب ومآلاتها تتعلق بخلاف وصراع حول السلطة ومشروع عالمي يلقي بظلاله نحو توجهاتها.

هذا الموقف ضد الحرب وجد إدانة لاحقة من دعاة الحرب بعد بروز الإسلاميين كلاعب أساسي في المشهد، واستعادة أساليبهم التخوينية القديمة خلال الآلة الإعلامية بأن كل من يقول لا للحرب هو عميل ومساند للمليشيا، وأن الموقف المقدس الذي تحرسه العناية الإلهية وهم رسلها هي كرامة الحرب للوطن، ونعم للحرب حتى دحر المليشيا، ولو تطلب الأمر دك الوطن وموارده بالأرض، ودحر المواطن كذلك لمزيد من الخسران الذي تكبده في الحرب، وهذه المبادئ بالطبع هي حصان طروادة الذي اختبأت فيه نواياهم تجاه الحرب باعتبارها قارب النجاة الأخير الذي سيفضي بهم نحو شط حلمهم بالعودة للسلطة، وحينها سيرى المواطن المخدوع الذي استنفر لجوارهم أنه مجرد أداة ستعيده حتمًا لعهد الغيهب والذل الذي كابده لثلاثة عقود جثمت على صدره، وأزاحتها ثورة ديسمبر التي بعثرت كل الأوراق على المسرح السياسي، ولقي من مقاومتها بواسطة قوى الظلام كل الجراح التي حاقت بالوطن وأودت به للهلاك من أجل تصفية تلك الثورة التي لا تزال تغض مضاجع الحالمين بموتها بالبندقية.

غير أن الموقف الذي يثير كثيرًا من الالتباس والدهشة هو موقف العديد من الجماهير الذي لا يسنده في الغالب أي منطق وهو تبني موقف الوقوف وراء الجيش باعتباره المؤسسة القومية التي تمثل هوية الدولة وحامي حماها، وأي محاولة لمحاورة هذا الموقف يجعلك في موقف غير الوطني، ومن يتبنى موقف الوقوف خلف الجيش المؤسسة القومية  يتعامى عامدًا عن فتح عديد من الأسئلة حول المآلات والتقلبات التي مرت بها المؤسسة خلال قرابة الأربعين عامًا حولتها لكيان يصعب وصفه بالمؤسسي والقومي على ضوء التغيرات التي حاقت به، هذا إذا استثنينا مواقف هذه المؤسسة تاريخيًا منذ نشأتها وما ارتكبته من جرائم ضد المواطن، ولم تكن في ظهره يومًا ما، فسيطرة تنظيم عقائدي متطرف على هذه المؤسسة لثلاثين عامًا وتصفيتها آن استيلائه على السلطة حيث شهدت المؤسسة أكبر عملية إزاحة لخيرة العناصر العسكرية في كشوفات الصالح العام والإبقاء على أفراد التنظيم بالجيش من الزبير إلى شمس الدين وبقية الموتورين ثم الموالين للتنظيم، وتمت تصفية المؤسسة من أي عنصر يمكنه إحداث تغيير أو انقلاب على سلطة الجبهة الإسلامية، وكان من مظاهر ذلك تصفية 28 ضابطًا في لمح البصر ودفن بعضهم أحياءً وغيرها من المحاولات التي تم وأدها في مهدها وإبعاد كل من به شبهة اللا موالاة، كما أن نظام الجبهة سيطر على منفذ دخول المؤسسة العسكرية بحيث أصبح الانتماء إليها قاصرًا على عضوية التنظيم لثلاثين عامًا عدا بعض الفلتات التي لا تتجاوز أصابع اليدين في كل دفعة ولك أن تتخيل مدي التحول الذي شاب المؤسسة من هذا الفعل، والأهم من ذلك التغيير الكبير الذي أحدثته سلطة الجبهة في عقيدة القوات المسلحة التي أبدلتها بعقيدة التنظيم وحولت فكرة ومفهوم الجندية الي فكرة المجاهد في سبيل العقيدة والتنظيم قبل الوطن، وتحولت المؤسسة بكاملها لخدمة التنظيم وليس لغرض قومي يتعلق بحماية الوطن والدستور وفقًا لما تعارف عن أهداف تلك المؤسسة، ثم أن التنظيم فعل في تلك المؤسسة ما أفرغها من محتواها بأن بدأ في تكوين قواته المليشياوية من دفاع شعبي وكتائب مسلحة وجعلها فوق القوات المسلحة، بحيث يملك أصغر كتائبي سلطات على أعلى الرتب العسكرية التي في الأصل صارت في خدمة التنظيم، وتحولت المؤسسة القومية للقوات المسلحة لذراع عسكري للحركة الإسلامية في قمة المهزلة التي صار فيها البشير قائدًا عامًا للجيش ورئيسًا لحزب المؤتمر الوطني في آن واحد، وهو الوقت الذي قام فيه بإنشاء مليشيا الدعم السريع وقننها برلمانيًا وجعل لها قانونًا وجعل زعيمها “راعي الخلا” يتلقى التحية العسكرية من أرفع الرتب والأنواط العسكرية بالقوات المسلحة، بل وصلت المهانة بالمؤسسة القومية أن صرح قائد المليشيا يومًا في قمة استهزاءه بها أن (الحكومة ما عندها ديش ولما تسويلها ديش تجي تتكلم معانا) (وهديك التقعة والذخيرة توري وشها)، هذا التصريح قيل وآلاف الرتب المدججة بالأنواط والنياشين شربته ملء سمعها ولم تحرك ساكنًا، بل إن عشرات الضباط من الرتب الرفيعة في جيش الهنا كانوا يطلبون ود قائد المليشيا ويتوسطون عنده لانتدابهم في الدعم السريع طمعًا في ما يغدقه عليهم ذلك من أموال، فأي هوان، ومن جهة أخرى هيمنت القوات المسلحة على التجارة والشركات وأصبحت تنافس وتحتكر التجارة في السوق وترهلت قياداتها بحثًا عن المناصب والأموال. فأي قومية ومؤسسية يمكن البحث عنها ووصف ما تبقى من هذا الجسم الذي صار هلاميًا للوقوف خلفه.

من الناحية النظرية لا ينكر أهمية الجيش كمؤسسة في نهضة الدول لكن وفقًا لمعايير محددة بالدستور والقانون وتشكل قوامها الهوية لكل الوطن وأبنائه واختلاف مشاربه الثقافية والاجتماعية ولحمته الوطنية، وهو ما يفارق الغثاء الذي صارت إليه مؤسسة القوات المسلحة التي أقل ما ينسب إليها في ثلاث سنوات من سيطرتها أن ارتكبت بالتضامن أو الانفراد مجزرة فض الاعتصام وإحداث انقلاب على الثورة، وإسقاط أكثر من مائة وعشرين من زهور شباب الوطن، ثم الزج بالبلاد أخيرًا في محرقة حرب لم تكن في أحلام المواطن السوداني أن تجر عليه كل مظاهر العناء والإذلال التي تعرض ولا يزال يعانيها، أما مقولة السذج في أن المرحلة هي القضاء على المليشيا ثم بعد ذلك إصلاح تلك المؤسسة فهو ضرب من الحلم الممزوج بالغباء وعدم الوعي بقراءة الواقع، فهل وصلت بك السذاجة أن تنتظر تلك القوات المسلحة بما وصفناها أعلاه بعد وقف الحرب أن تسلم لك مفاتيحها وتقول تعال إصلحني؟ وبذات أدواتك السلمية السابقة؟ هذا يعني أنك لم تع الدرس ولم تدر أن الطريق لجهنم مفروش بمثل نواياك الطيبة تلك، فحديث قائدها العام الذي عدل الوثيقة الدستورية وكرس كل السلطات في يده أوضح بشكل قاطع ما ينتظر القوى الثورية في المشهد القادم الذي رسمته القوي العسكرية أنه لا مجال لثورة أو احتجاج أو لساتك، وإن ذلك ولو حدث فستكون مواجهته بالبندقية التي ستتسيد المشهد القادم ولا عزاء لذوي الأحلام الوردية  .

أما فرية صغار الضباط الموجودين بالقوات المسلحة الذين يعول عليهم بعض السذج لإحداث تغيير علي مستوى المؤسسة نظرًا لما حدث أيام الثورة بأسطورة حامد الجامد ومحمد صديق له الرحمة؛ فهي فكرة يقنعون بها أنفسهم إمعانًا في العشم أشبه بفكرة المهدي المنتظر الذي سيخلص الشعب من عذاباته، فبكل البساطة لمعتنقي هذه الفكرة كم عدد الضباط الصغار الذين تشهد لهم بالانحياز الجماهيري سوى الاسمين المذكورين؟ الإجابة مؤكدًا لا أحد يملك أسماء أخرى، كما أنه منذ سادس أبريل 2019 وحتى اللخظة مرت كثير من مياه التغيير تحت جسر البرهان السلطوي، فهو وزمرته ليسوا بالسذاجة لإبقاء مثل هذا التيار وسط القوات المسلحة، فمنذ ذاك التاريخ عملت أيدي الجنرال وزمرته في تلك الفئة فصلًا وإبعادًا، فهناك كم هائل من الضباط الذين أبعدهم الجنرال بشبهة موالاة الثورة ولم يترك سوى الموالين له وللنظام السابق بحيث أنهم يمكن أن يكونوا حليفًا مؤقتًا له يشاركونه كراهية الثورة وهو الذي رفض كل محاولات القوى الثورية لاحقًا في تصفية الجيش ومؤسسات الدولة من الإسلاميين لعرقلة الثورة، لذلك سيطول أمد المنتظرين لفكرة المخلص المنتظر من رحم القوات المسلحة، ويصبح حلمهم كباخرة الخلاص الذي ظل يترقبها غردون باشا حتى تدحرج رأسه على سلم القصر،  فإذا سلمنا جدلًا مع الحالمين بوجود مثل هذا التيار فأين هو من الأحداث الجسام التي مرت بالبلاد منذ الانقلاب وحتى الآن؟ ولماذا لم يكن لهم موقف من انقلاب البرهان، وأين كانوا عند مجزرة فض الاعتصام، وما هو موقفهم من الحرب ونهب بعض منسوبيهم لبيوت المواطنين والعمل فيهم قتلًا واعتقالًا؟  وسيادة كتائب الإسلاميين تصول قتلًا وتصفية للخصوم، وقوات الأمن تشق على المواطنين وتستعرض عضلاتها، وماذا فعلوا مع جنرالات الحرب حين تعالت أصوات الدعوة للتفاوض والسلام، وبالطبع لم يحركوا ساكنًا بسبب قلة الحيلة والقدرة وانخرطوا ينفذون الأوامر بمزيد من الحرب  فهل هؤلاء من يعول عليهم؟ فالمعلوم أن الحرب التي يقودها الجنرالات بتحديد استراتيجيتها وإعطاء الأوامر تقوم تلك الفئة من أؤلئك الضباط بتفيذ الأوامر وقيادة المعركة على الأرض التي تتجه جميعها نحو الانخراط في القتال لنهايته تحقيقًا لرغبة الجنرالات وإمعانًا في نصر شخصي لدحر المليشيا التي مرغت الشرف العسكري يومًا في التراب، وآخر ما يمكن أن يجول بخاطرها هو نصرة المواطن أو إعادة مجد الثورة وبناء دولة مدنية، ففطرة الشهية العسكرية التي قادت الحرب أيًا كان حجمها فإنها تطمح لجني ثمار ما دفعته في الحرب بأن تتبوأ مقامًا في المشهد القادم كمكافأة لما قدمته، وأن لها الحق في تسييد الواقع المنتظر.

عليه فإن الواقع الأقرب للحقيقة هو تبني موقف الرافض للحرب، بتضافر ووحدة كل القوى الثورية والمدنية في مواجهة الخطر القادم من تحالف مليشيا الجيش وأمراء الحرب من جنرالاتها مع فلول الإسلاميين العائدين بقوة نحو تصفية حساباتهم مع المواطن الذي أبعدهم عن المشهد وما فوته عليهم من امتيازات سابقة، ويتأتى ذلك أولًا بتغيير طبيعة النظرة لهذه القوات وعدم التعويل على أي خير يمكن أن يتأتى من لدنها، فهي لم تعد موجودة بالأصل سوى شبح منها ولا تحتاج لهيكلة وإصلاح، بل تتطلب حلًا بالكامل وإحلال عناصر تتمتع بالرؤية الوطنية والعقيدة العسكرية الحقة المؤمنة بدور القوات في حماية الوطن والدستور والمواطن، فما يزال قدامى المحاربين والمعاشيين من منسوبي تلك القوات الذين انتظموا إبان الثورة للعودة لمواقعهم العسكرية لإعادة بناء المؤسسة على ذات القدرة لفض هذا الركام المتهالك المحسوب جيشًا على الوطن  .

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى