ترامب وإعادة تدوير الاستبداد في إفريقيا

دبلوماسية الفرص السهلة على أنقاض الديمقراطية

 

عصام عباس

في مشهد سياسي عبثي ومتحلل من أخلاقيات العمل الدبلوماسي والبروتوكول، استضاف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرًا قمة مصغرة ضمت دول من الساحل الافريقي الغربي، تم اختيارها بعناية وفقًا لقاعدة “الفرص السهلة أو Low Hanging Fruits ”  وتوزعوا بين رؤساء منتخبين ديموقراطيًا وآخرين جاؤوا محمولين على أسنة الرماح. وبرغم التباين بين هذه الدول إلا أنها تلتقي في قواسم مشتركة تهم الإدارة الأمريكية الجديدة، وهي وفرة المعادن النادرة (المنغنيز، التيتانيوم، اليورانيوم… إلخ)، بالإضافة لضعفها المؤسسي واستعدادها لقبول الإملاءات القادمة عبر المحيط. هذا اللقاء، الذي سماه البعض قمة مصغرة، وهو أبعد ما يكون عن أدبيات القمم، يعكس تحوّلًا جذريًا في السياسة الأمريكية تجاه القارة الإفريقية: من دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى توظيف النفوذ الأمريكي لفرض أجندة مصلحية ضيقة قائمة على شعار “أمريكا أولاً”، حتى ولو كان الثمن هو دعم أنظمة ديكتاتورية وعسكرية لا تأبه لقيم حقوق الإنسان والتحول المدني.

التخلي عن الإرث لأجل المصالح

لطالما تباهت الولايات المتحدة بإرثها في دعم الديمقراطية حول العالم، خاصة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث ارتبطت المساعدات الأمريكية غالبًا بشروط تتعلق بالإصلاح السياسي، والانتخابات الحرة، وحماية الحريات. إلا أن ما نشهده اليوم، في عهد تيار “ترامبوي” صاعد، هو انقلاب ناعم على هذا الإرث، وتحولٌ نحو دبلوماسية براجماتية باردة تُعلي من منطق المصالح الاستراتيجية والاقتصادية على حساب المبادئ.

لم يعد لحقوق الإنسان مكان في خطاب الإدارة الحالية، ولا لأي حديث جدي عن المساءلة أو الحوكمة الرشيدة. فقد تم استبدال الخطاب القديم بلغة تتحدث دون مواربة عن المصالح فقط من خلال الاستثمار، ومحاربة نفوذ المنافسين، وتسهيل الوصول للموارد، بغض النظر عن نوعية الأنظمة الحاكمة. لقاء ترامب مع قادة دول مثل الجابون – وهي تحت حكم عسكري سلطوي – لم يتضمن أي نقد علني لمسارهم السياسي، بل على العكس، بدا وكأن حضورهم في حد ذاته شكلٌ من أشكال الشرعية والدعم، وإن صاحبته سقطات بروتوكولية متعمدة.

دبلوماسية “الصفقات”: الموارد مقابل الصمت

هذا التحول في السياسة الأمريكية يرسل إشارات خطيرة: من يملك موارد استراتيجية (ذهب، يورانيوم، موقع استراتيجي… إلخ) يمكنه شراء صمت واشنطن، أو حتى دعمها الضمني، بصرف النظر عن كيفية وصوله إلى الحكم. وبذلك تُكافأ الأنظمة التي تقمع شعوبها إذا ضمنت المصالح الأمريكية، فيما يُترك دعاة الديمقراطية والتحول المدني في مهب الريح وفي مواجهة قمع الأجهزة الأمنية في بلدانهم.

هكذا تُستبدل قواعد الدبلوماسية القديمة بمنطق السوق: كل شيء قابل للمقايضة، والديمقراطية لم تعد أولوية. والنتيجة؟ تسابق أنظمة استبدادية لإرضاء واشنطن عبر “عربون صداقة” يتمثل في تسهيلات اقتصادية أو تنازلات سيادية.

تحفيز الانقلابات ونزعات المغامرين العسكريين

في بيئة سياسية هشة كما هو حال العديد من الدول الإفريقية، يكون لصمت القوى الكبرى – بل ولقاءاتها مع جنرالات الانقلابات – أثر إيجابي لدى عسكر أفريقيا المتربصين بالسلطة. فحين يرى ضباط مغامرون أو متهورون أنه باستطاعتهم كسب ود رئيس أكبر دولة في العالم تزعم أنها حامية للديموقراطية وحقوق الإنسان، فإن ذلك يحفزهم ويشجعهم على مزيد من المغامرات لأجل تقويض ديموقراطياتهم الناشئة واستبدالها بنظم عسكرية سلطوية. بهذا المعنى، لا يصبح الانقلاب مجرد خيار محلي، بل هو فعل مرحب به ومدعوم ضمنيًا بسياسة دولية تغضّ الطرف، أو حتى تشجع، على استبدال القادة المنتخبين بجنرالات يقدمون ما تريده واشنطن من استقرار مزيّف وامتيازات اقتصادية.

“الثوريون الجدد”: انقلابات تُشرّعها الغطرسة لا المبادئ

وعلى الضفة الأخرى من النهر، لا يتوقف الخطر عند الضباط الذين يسيل لعابهم للحوافز الترامبية، بل يتعداه إلى صنف آخر لا يقل خطورة: أولئك الذين يرتدون عباءة التحرر من “الوصاية الخارجية”، بينما يحيكون تحالفاتهم في الخفاء مع القوى الكبرى ويرون فيها غطاءً دوليًا لانقلاباتهم. هذا الصنف من العسكريين – المتمردين على الديمقراطية لا باسم الشعب بل باسم “الكرامة الوطنية” – يجد في الخطاب الأمريكي المتعالي، كما جسّده ترامب، مادة مثالية لتأجيج دعايته الثورية.

الاستعلاء الفجّ الذي أبداه ترامب أثناء لقائه بقادة غرب إفريقيا – من مقاطعته للرؤساء أثناء الحديث، إلى لغة الجسد الممتعضة، ثم مداخلاته التي تحمل ازدراءً واضحًا مثل تعليقه على إتقان أحدهم للغة الإنجليزية، وكأن إفريقيا لا تنتج إلا الجهلاء – يُقرأ في القارة على أنه مؤشر لسياسة تزدري الشعوب الإفريقية وتُعامل قادتها باستعلاء ودونية بغيضة. في ظل هذا المناخ، يخرج الضباط المغامرون ليقدموا أنفسهم كمنقذين من الهيمنة الأمريكية المتعجرفة، في مشهد يعيد تدوير القومية المزيفة لتبرير الاستبداد. هكذا، يجد هؤلاء الضباط في “الغطرَسة الترامبية” ذريعة مضادة: ليس فقط للتمرد على أنظمة منتخبة، بل لبناء شرعية انقلابية جديدة قائمة على رفض الخضوع، لا لصالح الشعوب، بل لصالح الحكم الفردي المطلق.

نحو ديكتاتوريات “صديقة” لأمريكا

هكذا تمضي إدارة ترامب – سواء عن قصد أو ضمن استراتيجيتها غير المعلنة – نحو صناعة جيل جديد من الديكتاتوريات الإفريقية، ممن يوفرون الاستقرار القمعي على حساب تطلعات الشعوب. وهكذا يُختزل مستقبل إفريقيا في توازنات بين عواصم المال والسلاح، بينما يتم تهميش قوى المجتمع المدني، والإعلام المستقل، والنقابات، وكل ما يمثّل الديمقراطية الحقيقية.

السودان في عين العاصفة

الوقائع والاستنتاجات تشير بوضوح إلى أن الإدارة الأمريكية قد اختارت وجهتها، ومالت كفّتها نحو دعم استقرار سلطوي تفرضه قبضة العسكر. غير أن تحقيق هذا السيناريو يتطلب – على الأرجح – تدخلاً غير مباشر، يتم عبر ضغوط إقليمية تدفع طرفي الحرب نحو وقف فوري لإطلاق النار، والتوصل إلى صيغة “تشاركية” تُقصي الفاعلين المدنيين، وتُهمّش قوى الثورة التي ظلت تنادي بحكم مدني خالص ولا استبعد أن تتغاضى واشنطن عن الدور المتنامي للإسلاميين، الذين لن يجدوا حرجًا في الانخراط في شراكة كهذه طالما تُقصي خصومهم التقليديين، وتعيد ترتيب المشهد السياسي بما يتماشى مع مصالحهم القديمة المتجددة.

في هذا السياق، وبرغم أن دعم واشنطن لنظام عسكري سلطوي يتعارض مع مبادئ الاتحاد الأفريقي، لكنه يظل مؤسسة عاجزة عن مواجهة الصلف الامريكي وسطوة قرارات ترامب الذي شاهدناه في القمة الأمريكية الغرب-أفريقية الأخيرة كيف تعامل مع قادة القارة: مقاطعة، استهزاء، وتجاهل بروتوكولي فادح حين طلب من كل رئيس أن يعرّف بنفسه ودولته.

عبو ضراكن يا رجالة وخلو بصركم دغري وسالم

إن ما يحدث اليوم ليس مجرد تغيّر في النبرة الأمريكية، بل هو انقلاب حقيقي على منظومة القيم التي لطالما رفعتها واشنطن. وإن لم تتدارك القوى الديمقراطية في الداخل الأمريكي والأمم الحرة هذا التوجه، فقد نجد أنفسنا أمام سودان تُعاد هندسته سياسيًا لصالح نخبة عسكرية استبدادية، تحكم بالحديد والنار، وتستمد شرعيتها من البيت الأبيض لا من صناديق الاقتراع.

واختم بالقول، أن التعويل على تدخل أمريكي فاعل وعادل في أزمتنا هذه هو ضرب من الأوهام وإن مفتاح الخلاص الحقيقي لا يكمن في الخارج، بل في الداخل السوداني، عبر حوار وطني شجاع يخاطب جذور الصراع، وتنازلات متبادلة، وإرادة سياسية تعلو فوق الحسابات الذاتية لإعادة بناء الثقة والتوافق على مستقبل وطن جريح.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى