آخر قس في الفاشر المحاصرة..
صمودٌ وسط الجوع والرصاص
بقلم: فريدريك نزويلي
في قلب مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور ، المحاصرة منذ أكثر من عام، يواصل القس دارامالي أبو ديجين الدفاع عن بقايا المجتمع المسيحي الذي يوشك أن يندثر تحت القصف والجوع. في مدينة تحولت إلى مسرح للموت اليومي، يصر القس البالغ من العمر 44 عامًا على إبقاء أبواب كنيسة القديس ماثيو مفتوحةً أمام كل من يبحث عن مأوى روحي وأمان مفقود.
رغم أن أغلب القساوسة والكهنة فروا من دارفور مع تصاعد الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، اختار أبو ديجين أن يبقى. يقول: “بعد مقتل خمسة من أفراد رعيتي في مايو الماضي إثر إطلاق نار عشوائي على مجمع الكنيسة، فكرت في المغادرة، لكنني عدت عن قراري. كلما فقدنا شخصًا أشعر بحزن شديد، لكن وجودي بينهم واجبي.”
منذ أبريل/نيسان 2023، تعيش الفاشر تحت حصار قوات الدعم السريع التي شددت قبضتها على المدينة بعدما أعلنت ميليشيات محلية ولاءها للقوات المسلحة السودانية. ونتيجة لذلك، باتت الأسواق شبه مشلولة، والرصاص الطائش والقنابل العشوائية تقتحم المنازل في أي لحظة. يقول القس: “قد يفقد الإنسان حياته في أي وقت… لا مكان آمن هنا.”
الحصار لم يقتصر على تقييد الحركة، بل قطع شرايين الحياة. المواد الغذائية نادرة وباهظة الثمن، وغالبية السكان لا يملكون المال لشرائها. “الطعام موجود في السوق، لكن الناس لا يستطيعون شراءه. الجوع يفتك بالناس يوميًا، وخاصة الأطفال”، يضيف أبو ديجين.
موت يطارد الأطفال
في مخيمي النازحين أبو شوك وزمزم القريبين من الفاشر، يواجه عشرات الآلاف أوضاعًا كارثية. ففي أبريل الماضي، أسفرت غارة جوية عن مقتل أكثر من 100 شخص بينهم 20 طفلًا و10 من عمال الإغاثة. وفي 11 أغسطس، سقط 57 قتيلًا، كان 40 منهم من سكان أبو شوك.
تقول تقارير الأمم المتحدة إن المجاعة تضرب مخيم زمزم منذ العام الماضي، غير أن المساعدات الإنسانية لم تصل بسبب إغلاق طرق الإمداد. الأطفال يعانون من سوء تغذية حاد، وبعضهم يموت يوميًا أمام أعين ذويهم. “بينما أتحدث معكم فقدنا طفلًا بسبب الجوع، وطفلين آخرين بسبب المرض لغياب الأدوية”، يروي القس بحزن.
القس أبو ديجين ليس وحيدًا في فقدانه. ففي يونيو/حزيران الماضي، قُتل القس لوكا جومو، راعي كنيسة كاثوليكية في المدينة، برصاصة طائشة أثناء هجوم لمليشيات مسلحة. حاولت كنيسته إخراجه من الفاشر، لكنه ظل محاصرًا حتى فارق الحياة. هذه الحادثة عمّقت عزلة أبو ديجين، الذي بات الكاهن الوحيد المتبقي في المدينة، يجمع المصلين من مختلف الطوائف المسيحية في مكان واحد لحمايتهم من القصف.
جذور نوبية
أبو ديجين وُلد في جبال النوبة، وهي منطقة لطالما عُرفت بمقاومتها، وموطن لمئات الآلاف من اللاجئين السودانيين. رُسِم كاهنًا عام 2010، ومنذ ذلك الحين كرّس حياته لخدمة مجتمعه. اليوم يجد نفسه في مواجهة واحدة من أقسى الاختبارات: قيادة رعية محاصرة، في مدينة فقدت الأمن والغذاء والدواء.
لكن صموده لا يعني أن التحديات أقل وطأة. فالكنيسة نفسها تعاني من نقص الموارد. يقول: “كانت الكنيسة ترسل لي 200 ألف جنيه سوداني شهريًا (ما يعادل 330 دولارًا سابقًا)، أما الآن فالمبلغ لا يكفيني ليومين. لا أملك ما أقدمه للناس.”
أمام هذه الصورة القاتمة، يوجه أبو ديجين نداءً عاجلًا إلى المجتمع الدولي والكنائس في العالم: “نحن بحاجة إلى تحرك سريع لإنقاذ الناس في الفاشر. الطعام والدواء هما الحاجتان الأكثر إلحاحًا. الوضع يتدهور يومًا بعد يوم، والجوع يقتل أكثر من القنابل.”
في الفاشر، حيث الموت يتربص بكل شارع وزاوية، اختار هذا القس أن يكون شاهدًا على المعاناة، وصوتًا لا يزال يصرخ في صمت الحرب. وبينما يودع ضحايا الجوع والرصاص، يواصل تمسكه برسالته: البقاء مع رعيته حتى النهاية.
فريدريك نزويلي
صحفي مقيم في نيروبي، كينيا. كتب لأكثر من 15 عامًا في مجالات الدين والسياسة والسلام والصراع والتنمية والأمن والبيئة والحياة البرية. نُشرت مقالاته في مؤسسات إعلامية دولية، منها: ذا تابلت، وكريستيان ساينس مونيتور، وناشيونال جيوغرافيك، وصحف كينية محلية، بالإضافة إلى ذا ستاندرد، وبيبول ديلي.