كلمة العدد : حكومات البندقجية
في اللحظة التي كان فيها حميدتي يضع يده على المصحف ليقسم رئيسًا للمجلس الرئاسي لحكومة نيالا، كان البرهان في بورتسودان يخطّ توقيعه على مرسوم تعيين قاضٍ من بقايا الإنقاذ رئيسًا للمحكمة الدستورية، المحكمة التي قتلها عمداً منذ 2019. مفارقة فادحة: حكومتان من البندقجية، تتقاسمان الخراب، وتتصارعان على سلطة وهمية فوق وطن محترق.
أيّ يمينٍ هذه التي تُؤدى فوق دماء الناس؟ وأي دستور هذا الذي يُعاد بعثه في بلدٍ ماتت فيه العدالة، وامتلأت شوارعه بالجثث والخراب ومزقت وثيقته منذ ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١؟
إنهم يقسمون ويصدرون المراسيم باسم شعبٍ تفتك به الأوبئة، فمن لم يقتله الرصاص والمرض، قتلته الحسرة، وإن لم يكن لديه ما يتحسر عليه، سحقته المهانة في بلاد الغربة.
اليوم، شوارع القاهرة مزدحمة بصرخات نساء السودان، وهنّ يتكففن الناس من أجل لقمة العيش، فيما ينام الرجال والشباب على أرصفة وحدائق الرياض بلا مأوى، وقد حوّلهم تجار الحرب إلى غرباء في أرض ليست أرضهم. وعلى الضفة الأخرى من الخليج، يقضي آلاف السودانيين في دولة الإمارات أيامهم بلا هوية ولا أوراق ثبوتية، لأن حكومة بورتسودان قررت قطع العلاقات مع أبوظبي، دون أن تلتفت إلى أن هناك جالية ضخمة تحتاج إلى خدمات قنصلية. وفي مثل هذه الحالات، الدول التي تحترم شعوبها تسند مهامها إلى سفارة دولة أخرى، لكن عندنا، المواطن هو آخر همّ من يتقاتلون على الكراسي.
أي لعنة هذه التي جعلت السوداني، الذي كان سيد الأرض ومالكها، يتحوّل إلى طريدٍ على أبواب العالم؟ من لم يقتله القصف، يقتله الجوع. ومن لم يفتك به المرض، يهينه سؤال الغريب. ومن لم يتقطّع قلبه على وطنه، يذوب خجلاً من حاله بين الأمم.
البرهان وحميدتي ليسا سوى وجهين لعملة زائفة، كلاهما يحمل سلاحه في وجه وطنه، ويقتات على دماء شعبه، ويقسم باسم الله بينما ينقض أبسط وصاياه: “ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق”. لكن الحق غاب، والباطل تمدّد، فصار السودان أسير بندقجية لا يعرفون إلا لغة الدم والخراب.
لقد صار الوطن مقسّماً إلى حكومتين بلا دولة، وجيوش بلا قضية، ومجالس بلا شعب. والحقيقة المؤلمة أن السوداني الآن بلا سقف يأويه، وبلا هوية تحميه، ولا عدالة تنصفه. كل ما تبقى هو شعب يصرخ في المنافي، وأطفال ينامون جياعًا، ونساء يذرفن الدموع على أرصفة الغربة، فيما قادته يوزّعون الألقاب والمناصب كأنهم على كوكب آخر.
انهارت منظومة العدالة حتى غدت وهماً، فكاذب من يجرؤ على القول إن في نيالا أو بورتسودان قاضيًا يقضي بالحق. فالأحكام اليوم لا تخرج من منصة القضاء، بل من فوهات البنادق، ويُمليها من يحفرون الخنادق. صار السلاح هو الدستور، والرصاص هو القانون، أما الأمن والأمان فمجرد أمنية هشّة، وحلم يراود من يسكن الضعين أو ذاك الذي اختار أم درمان مأوىً. مصيرك لم يعد بيد محكمة أو قانون، بل في قبضة طفلٍ غرّ، مغرور، يظن أن طول بندقيته شهادة عدلٍ وميزان حق.
لم يعد للعدالة قاضٍ ولا للشعب منقذ، بل صرنا جميعاً أسرى زنادٍ طائش، قد يقرر في لحظة نزق أن يُطفئ حياتك كعود ثقاب.
ولا عجب فالوطن كله بات رهينة رجلين… روعاه متفقين، وأحرقاه مختلفين.