أمومة تتحدى الموت… قصة أم سودانية حفرت الرمال الملتهبة بيديها العاريتين لتنقذ حياة ابنتها
بقلم :سارة إيستر وهيلول صبحان
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، يعيش ملايين المدنيين واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم. ومع تصاعد القتال وتوسع رقعة النزوح، تحولت الحدود مع دول الجوار إلى شريان حياة مهدد بالانقطاع في أي لحظة. تشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 4 ملايين سوداني عبروا الحدود إلى بلدان مثل تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا ومصر بحلول سبتمبر 2025.
لكن خلف هذه الأرقام، توجد قصص إنسانية تُجسد حجم المأساة. واحدة من هذه القصص هي قصة ماريا، شابة سودانية تبلغ من العمر 20 عامًا، اضطرت للفرار من مدينتها وهي تحمل طفلتها الرضيعة “إمتياس”، في رحلة محفوفة بالعطش والخوف والمجهول.
تروي ماريا بدايات هروبها قائلة: “القنابل لم تتوقف، والرصاص يقترب أكثر فأكثر. حملت طفلتي وركضت. لم أفكر في شيء سوى النجاة”.لم تكن معها سوى قطعة قماش رقيقة تلف بها جسدها وجسد ابنتها. على مدى أيام، واصلت السير وسط مئات الأسر الهاربة، معظمهم من النساء والأطفال. لم يكن هناك وقت للراحة أو للبحث عن غذاء أو ماء. تقول: “آخر مرة شربت فيها الماء كانت قبل يومين. آخر وجبة طعام تناولتها كانت قبل ستة أيام”.بدأ الجفاف ينهش جسدها: صداع، تشقق في الشفتين، دوار مستمر، وإرهاق شديد. ومع ذلك، ظلت تتحرك، مدفوعة بغريزة الأمومة ورغبتها في حماية طفلتها التي كانت تتشبث بصدرها.
البحث عن قطرة ماء
وسط الصحراء القاحلة، لجأت ماريا ومعها جاراتها إلى طريقة بدائية للبحث عن الماء: الحفر في الرمال بأيديهن العارية. جلست على ركبتيها، تحفر مترًا تلو الآخر. كانت الرمال ساخنة وثقيلة، وذراعاها ترتجفان من التعب. على عمق مترين، ظهرت أخيرًا بقايا رطوبة.تقول ماريا : “ارتشفت قليلاً، ثم أعطيت بعضًا من الماء لابنتي. توقفت عن البكاء فورًا”.
لكن الصورة من حولها كانت مفجعة: الكثير من الأطفال فقدوا القدرة على البكاء. بعض الأمهات بدأن يتساءلن بخوف: “هل أطفالنا ما زالوا على قيد الحياة؟”. البعض الآخر حملوا أجسادًا صغيرة خامدة على ظهورهن دون أن يجدن وسيلة للتأكد.
بعد أيام من السير، وصلت ماريا مع موجات النازحين إلى الأراضي التشادية. لكنها اكتشفت أن المعاناة لم تنتهِ. هنا، لا مأوى، لا طعام كافٍ، ولا مياه نظيفة إلا بالحد الأدنى.وتضيف ماريا :“أعرف أنني في مكان آخر فقط لأنني لم أعد أسمع إطلاق النار”، “لكننا ننام على الأرض، بلا حصائر أو أغطية. بعض الجيران يملكون أواني، أما أنا فلا أملك سوى الشال الذي أرتديه”.
فتحت شمس حارقة، ينام النازحون على التراب الجاف، محاطين بالذباب. في الليل، يسيطر الصمت، ولا يُسمع إلا بكاء الأطفال الذين ما زالوا قادرين على البكاء.
أزمة نزوح غير مسبوقة
بحسب بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن أزمة السودان تُعد واحدة من الأسرع نموًا في العالم اليوم. أكثر من 4 ملايين شخص عبروا الحدود، فيما نزح داخليًا أكثر من 9 ملايين آخرين داخل السودان نفسه.
تشاد تستضيف وحدها ما يزيد على 1.8 مليون لاجئ سوداني، وهو ما يفوق قدرتها على الاستيعاب. مقاطعة غيريدا، حيث وصلت ماريا، أصبحت مكتظة بمخيمات عشوائية لا تتوفر فيها مقومات الحياة الأساسية.النساء يشكلن الغالبية في موجات النزوح. كثير منهن أُجبرن على السير لمسافات طويلة وهن يحملن أطفالًا رضعًا. منظمة “كير” الدولية تحذر من أن 70% من النازحين السودانيين من النساء والأطفال، ما يجعلهم الأكثر عرضة للعنف وسوء التغذية والأمراض.
ماريا مثال حي لهذه المأساة. قوتها الجسدية تراجعت، لكنها رفضت الاستسلام. تقول ماريا وهي تحتضن ابنتها : “أفكر فقط في طفلتي. حياتها تعتمد عليّ بالكامل”.
في مواجهة هذه الكارثة، تعمل منظمات دولية على توفير الحد الأدنى من الدعم. منظمة CARE، بدعم من الاتحاد الأوروبي، تدير برامج في غيريدا تشمل توفير المياه النظيفة والصرف الصحي.وتدريب العاملين الصحيين وتجهيز المراكز الطبية.
بالاضافة الي تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للنساء والأطفال.لكن هذه الجهود تبقى محدودة مقارنة بحجم الاحتياجات. تقول تقارير أممية إن فجوة التمويل للعمل الإنساني في السودان ودول الجوار تتجاوز 60%.
على الرغم من المعاناة القاسية، تظل قصص مثل قصة ماريا شاهدة على قوة الإرادة الإنسانية. تقول: “في الليل، لا نسمع إلا بكاء الأطفال الذين ما زالوا قادرين على البكاء. لكن أصوات اطلاق النار قد ولت. نحن ما زلنا على قيد الحياة”.
إنها كلمات تختصر معركة البقاء التي يخوضها ملايين السودانيين يوميًا. معركة ليست فقط من أجل النجاة الجسدية، بل أيضًا من أجل الحفاظ على الأمل في مستقبل أفضل.