فساد الامتحانات في السودان: جبايات، تواطؤ، وامتهان لحقوق التلاميذ (١ – ٦)
بقلم: حسن عبد الرضي
منذ سنوات طويلة، تحولت امتحانات الشهادات العامة في تلك الولاية إلى موسم للجبايات والنهب المنظم، تحت غطاء “الرسوم الرسمية” التي لا يعرف لها أحد أساسًا في القانون ولا يجد لها أثرًا في أي أورنيك مالي مُعتمد. إنها سوق سوداء مشرعنة، ضحيتها الأولى والأخيرة هم التلاميذ وأولياء أمورهم.
الواقع المؤلم أن المبلغ الحقيقي المفترض سداده من كل تلميذ لا يتجاوز ربع ما يُطلب منهم. أما الثلاثة أرباع المتبقية فتتوزع بين جيوب الموظفين والإداريين والوسطاء من قاع السلم إلى قمته. هكذا تتحول الرسوم التعليمية إلى غنيمة تتقاسمها “الكروش الرملية التي لا ترتوي”، بدلًا من أن تذهب لدعم العملية التعليمية وتحسين بيئة الامتحانات.
الأدهى من ذلك أن إدارة الامتحانات هنا لا تعرف مصطلح “إزالة العهد” ولا تعترف بأي آلية رقابة أو شفافية. فالمدرسة تفرض ما تشاء وتقتطع نصيبها، ثم تبعث بالباقي للمحلية، وهذه بدورها تخصم حصتها قبل أن ترفع المبلغ للولاية، دون أن تصدر إيصالًا رسميًا واحدًا يوضح حركة المال. ما يجري ليس مجرد إهمال إداري، بل منظومة فساد راسخة، تشترك فيها مستويات مختلفة من التعليم والإدارة، حتى صارت أمرًا اعتياديًا لا يثير الدهشة.
المشهد أشبه بعملية “نهب رسمي منظم”، يحميه الصمت المتواطئ من المسؤولين، بدءًا من الوالي ووزير التربية، مرورًا بأجهزة يفترض أن تكون رادعة، مثل الأمن الاقتصادي وأمن التعليم، وانتهاءً بديوان المراجع العام الذي غاب دوره تمامًا، وكأن أموال الشعب ليست من اختصاصه.
إن السؤال البسيط الذي يتردد على ألسنة أولياء الأمور والتلاميذ اليوم:
“أين ذهبت أموال الامتحانات؟”
فقد دفع تلاميذ المرحلة المتوسطة هذا العام أكثر من (٥٠ ألف جنيه) كرسوم امتحان، إضافة إلى (١٠٠ ألف جنيه) لترحيل وإعاشة وسكن، ومع ذلك لم يجدوا من هذه المبالغ سوى الفتات، بل تكفل أهالي القرى التي استضافت أبناءنا بالسكن والإعاشة الكاملة على نفقتهم الخاصة، كما حدث في امتحانات الشهادة الابتدائية الشهر الماضي.
إنها فضيحة كاملة الأركان، لا يمكن تبريرها إلا بوجود شبكة فساد متشعبة، تحكمها إشارات “خضراء أو بيضاء” من فوق، تحمي الفاسدين من المساءلة، وتمنع اتخاذ أي إجراء قانوني ضدهم. هذا الصمت القبيح يجعل من المسؤولين شركاء أصيلين في الجريمة، والساكت عن الحق هنا شيطان أخرس.
إن فساد إدارة الامتحانات ليس مجرد قضية مالية عابرة، بل هو اعتداء مباشر على مستقبل أبنائنا وعلى كرامة هذا الشعب، الذي أُرهق من دفع الجبايات على كل خطوة، حتى في حقه البديهي في التعليم.
لقد آن الأوان لكشف هذه المنظومة الفاسدة، ومطالبة الدولة، إن كانت هنالك دولة، بمحاسبة كل من تورط في هذه الجريمة المستمرة، وإعادة الحقوق لأصحابها. فامتحانات أبنائنا ليست سوقًا للنهب، ولا موسماً للثراء الحرام، بل حق وطني مقدس يجب أن يُصان.