كمال بولاد لـ”أفق جديد”: الرباعية” زلزال سياسي.. لكنه غير كافٍ

إرادة الشعب ستنتصر، عاجلاً أو آجلاً

لابد للقوى المدنية من التوحد للاستفادة من الموقف الدولي
في المشهد السوداني المتشابك، حيث تتقاطع البنادق مع الأجندات، وتتنازع الخرائط الولاءات، تطلّ التحركات الدولية ممثلة في ما تعارف عليه باسم “الرباعية” كإشارة جديدة في أفقٍ غائم، محمَّلٍ بالأسئلة حول ما إذا كانت الدبلوماسية قادرة على كبح جموح الحرب التي أنهكت البلاد، وأرهقت ضمير الإقليم والعالم.
في هذا المنعطف الحرج، أجرت مجلة “أفق جديد” حواراً مع عضو الأمانة العامة لتحالف صمود والأمين السياسي لحزب البعث القومي، الأستاذ كمال بولاد، وهو أحد أبرز الأصوات السياسية الفاعلة في المشهد السياسي وتوازنات الحرب ومآلاتها.
في حديثه، قرأ بولاد تحركات الرباعية في ضوء التحولات الإقليمية والدولية، محللاً أثرها على خريطة التحالفات بين الجيش وقوات الدعم السريع وحلفائهما، وموقفها من الإسلام السياسي، ومستقبل التسوية المدنية التي تتطلع إليها القوى الوطنية بعد سنوات من الدم والخذلان.
وفي ما يلي قراءة بولاد للمشهد:

افق جديد
يقول عضو الأمانة العامة لتحالف صمود والأمين السياسي لحزب البعث القومي إن إعلان بيان الرباعية وتأكيد موقف دولها الأربعة في بياناتها المنفردة من الحرب في السودان، يعكس بالفعل أن تحولًا قد حدث في مواقف أطرافها، بالرغم من أنه في أوقات سابقة لم يكن هناك موقف موحد من هذه الدول حول مأساة بلادنا، يجمع جهود قادتها لوقف الحرب في السودان التي كانت مبعثرة ما بين مبادرة جدة والمنامة وجنيف.. إلخ. ويضيف بولاد: “لكن انكشاف سيطرة الحركة الإسلامية على قرار الحرب والسلم، وعلى مفاصل الدولة أنعش الذاكرة حول طبيعة وتفكير الإسلام السياسى ومنهجه، ونتائج تجاربه سواء في السلطة التي تربع عليها ثلاثة عقود في السودان وعمل من خلالها على زعزعة استقرار دول الجوار، ثم عامل آخر برغماتي أظهرته مجريات الحرب هو بروز الدور الإيراني في المنطقة وما يمكن أن يفسره أعضاء الرباعية بالتهديد لأمن البحر الأحمر من وجهة نظر استراتيجية، ومن ثم محاولات روسيا وضع أرجلها في المنطقة والاستثمار في مناخ الحرب ببناء قاعدة بحرية على السواحل السودانية للبحر الأحمر”. كل ذلك طبقًا لكمال بولاد أسهم في توحيد موقف دول الرباعية وقناعة باتت تتولد في مصانع القرار بتلك الدول ومعظم دول العالم أن استمرار الحرب لفترات أطول سيؤثر عاجلًا أم آجلًا في استقرار الإقليم ودول المنطقة، مما وضع أمامهم الخيار الأهم وهو العمل على إيقاف الحرب، وموقف الرباعية بالقطع من الممكن أن يعمل على جذب دول أخرى صاحبة تأثير فى القرارات الدولية.

ويضيف بولاد قائلاً: “مما لا ريب فيه، أن تيار الإسلام السياسي المتطرف وقادته من رموز النظام السابق لا يرون طريقاً للعودة إلى الحُكم إلا عبر محو الخصم وإسكات كل صوت معارض، ليس فقط هزيمة سياسية بل إبادة رمزية لثورة ديسمبر/أبريل ومكتسباتها، طي شعاراتها وطمس رموزها وحصار قواها الحيّة. هذه ليست نزعة مؤقتة أو رغبة في الاحتفاظ بالسلطة فحسب؛ بل استراتيجية واضحة تُبنى على العنف المُمنهج واستعادة آليات استبدادية تُبقي البلاد في حلقة من القمع والخوف”. ويزيد: “هم بذلك يريدون أن يضعوا العالم أمام واقعٍ يصنعونه بأيديهم: واقع يتعاظم فيه سفك الدماء وتُؤزّم فيه الأوضاع الإنسانية والسياسية، لأن حماية مصالحهم لا تتحقق إلا بسطوة القوّة وبالتنكيل بالآخر، وهذا التفكير عندهم ليس سرًا وإنما يطرحونه على الملأ”.
تيار متطرف
فالقضية عند رموز الإسلام السياسي كما هو واضح أكبر من مجرد صراع على المناصب؛ هي محاولة لإخراس المجتمع المدني وإلغاء الخيار الديمقراطي عبر أدوات الحرب نفسها، من حملات التشويه والاعتقال إلى تحريك ميليشيات تُعيد تقاسم النفوذ بالقوة. وكلما تمسّك هؤلاء بالقناعات السلطوية، ازداد عنفهم وتحوّلت التكتيكات إلى أدواتٍ للانتقام السياسي: تفتّت التحالفات، تحوّل التحالفات المؤقتة إلى صفوف متصارعة، وارتفاع منسوب السطوة مقابل تراجع شروط الحلّ السياسي.

لا بدّ أن تُبنى أي استراتيجية مقاومة أو مصالحة على وعيٍ بهذه النية المعلنة: إعادة إنتاج الاستبداد عبر محو الثورة ليست خيارًا عابراً يمكن تحييده بالخطابات الرقيقة؛ إنها مشروعٌ عملي يتطلب مواجهته سياسياً وإعلامياً وقضائياً وحقوقياً. وإلا فسنشهد دفناً مُمنهجاً لما تبقى من آمال التغيير، وتحويل النصر المؤقت لأحد الأطراف إلى هزيمة دائمة للكل – للمجتمع، للمؤسسات، ولذاكرة الثورة.

تصعيد قتالي
وحول مدى تأثير الرباعية والضغوط التي تمارسها على أطراف الحرب يرى بولاد
في هذه المرحلة، قد لا تُسفر مواقف الرباعية عن تأثيرٍ فوري يغير من واقع ساحة المعركة؛ وربما نشهد، على العكس، تصعيدًا عنيفًا في القتال على المدى القريب قبل أن تنتقل الرباعية – وبخاصة المجتمع الدولي الداعم لها – إلى مربع ضغوطٍ جديد. لكن التقليل من شأن بيان الرباعية أو الاستخفاف بتبعاته خطأ فادح. صحيح أن البيان لم يفرض حتى الآن آليات إجبارية لفرض هدنة أو وقف لإطلاق النار، إلا أنه أنجز شرطًا أوليًا وأساسيًا لأي آلية لاحقة: وهو الإجماع الإقليمي والدولي على ضرورة إيقاف الحرب في السودان. وهذا الإجماع نفسه هو بابٌ يمكن من خلاله توسيع الضغوط وتحويل التعبير الدبلوماسي إلى إجراءات ملموسة.
ومع ذلك، وفقًا للأمين السياسي لحزب البعث لا بدّ من التأكيد أن الاعتماد الحصري على الضغوط الخارجية وحدها لا يكفي لإيقاف نزيف الدم. واجبنا القومي يحتم بروز دورٍ وطنيٍ فاعل – سياسيًا، مدنيًا ومؤسسيًا – يمارس الضغط ويقود الحوار مع أطراف الحرب والإقليم والمجتمع الدولي، ويفضح حجم المأساة ويفضح مرتكبيها. كما يتطلب الأمر التفكير سريعًا في بناء آليات وطنية متينة لوقف القتال وإدارة عملية الانتقال؛ آليات تُكمل وتُقوّي الجهود الداعمة من الخارج، لا أن تنتظرها.
ويضيف من شأن تصعيد الدور المدني واحتضان مبادرات مصالحة وطنية أن يخلق أرضية سياسية قابلة للتنفيذ: وقف نزيف الدم، الحفاظ على وحدة البلاد، والانتقال إلى عملية سياسية مدنية متوافق عليها، تقود إلى جيشٍ مهنيٍ واحدٍ بعقيدة وطنية. كل يوم يمر من عمر هذه الحرب يصبّ في غير مصلحة السودان، يُفقِد الأفق، يهدر الأرواح، ويهشِّم نسيج البلاد. بعد ما يقارب الثلاثة أعوام من الصراع، يجب أن تُدرك كل الأطراف عبثية واستحالة مكاسب استمرار هذا المسار، وأن تُترجم هذه الإدراكات إلى خطوات عملية تُنهي معاناة المدنيين التي تجسدت في الموت والجرح والتشريد واللجوء.
تزحزح حتمي
وفي إجابته عن سؤال كيف ستنعكس تحركات الرباعية على التحالفات الخارجية لكل طرف خصوصًا مع بروز أدوار تركيا والإمارات ومصر وإيران في المشهد؟ يرى كمال بولاد أن مواقف دول الرباعية ستترك أثرًا بالغًا في توازنات الحرب وتفاعلاتها السياسية، إذ – كما يقول – “من المؤكد أن بيان الرباعية سيُضعف هامش المناورة أمام طرفي النزاع، ويجعل من الصعب عليهما توسيع دوائر تحالفاتهما أو كسب حلفاء جدد، بل إننا قد نشهد تزحزحًا تدريجيًا في مواقف بعض الحلفاء الحاليين”. ويضيف بولاد أن “بعض الداعمين الإقليميين والدوليين لأطراف الحرب لن يستطيعوا الاستمرار طويلًا في إخفاء دعمهم أو التمويه عليه، فالمناخ الدولي لم يعد يحتمل مزيدًا من المواربة”.
ويشير بولاد إلى أن دخول إيران على خط الصراع سيُعقّد المشهد أكثر مما يُفيده، إذ إن انخراطها سيقود حكومة بورتسودان إلى مزيدٍ من العزلة السياسية، بينما تواجه طهران نفسها ضغوطًا غربية متصاعدة قد تحدّ من قدرتها على التمدد والتأثير. “نحن أمام مرحلة جديدة من إعادة الاصطفاف الإقليمي والدولي” يقول بولاد، مضيفًا أن مخرجات بيان الرباعية بدأت بالفعل تُحدث أثرًا ملموسًا في المواقف، ويتجلى ذلك في سرعة تأييد الاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد لمضامين البيان وتأكيدهما على ضرورة المضي في طريق الحل السياسي السلمي.
ويختم اجابته عن السؤال بالقول إن “التحول في المواقف الإقليمية والدولية، وإن بدا بطيئًا في ظاهره، إلا أنه يحمل في طياته دلالاتٍ مهمة على بداية انكشاف الأطراف التي تراهن على الحرب كخيارٍ وحيد، وبداية تضييق المساحات أمام استمرار هذا العبث المدمّر”.
زلزال سياسي
وفي رده عن سؤال، عن ما إذا كانت هذه التحركات ستؤدي الى تعميق الانقسامات داخل معسكر بورتسودان؟ يرى كمال بولاد، أن أي بادرةٍ نحو حلٍّ تفاوضي أو حتى مجرد هدنةٍ جزئية ستكون بمثابة زلزال سياسي داخل معسكر بورتسودان، لأنها ستضرب في عمق التحالفات التي تشكّلت على نار الحرب ومصالحها المتشابكة. فبحسب بولاد، إن أكثر تلك التحالفات تماسكًا كان ناتجًا من مناخ الحرب وما وفره من مكاسب ونفوذ، لا من قناعة سياسية أو مشروع وطني متكامل. لذلك فإن أي تحركٍ نحو السلام سيُعيد تشكيل المشهد هناك على نحوٍ مختلف، ويكشف التناقضات التي كانت تُغطيها شعارات “الانتصار العسكري” و”حماية الدولة”.
ويضيف أن المؤشرات على هذا التفكك بدأت فعلاً بالظهور منذ صدور بيان الرباعية، إذ ارتفعت أصواتٌ من داخل بورتسودان تنتقد علنًا تغوّل رموز النظام البائد على مفاصل الدولة، وتُقرّ بسيطرتهم الواضحة على حكومة كامل إدريس. ويعتبر بولاد أن هذه الانتقادات تمثل تطورًا لافتًا وإشارة إلى بدء عملية تراكم ضرورية لإبعاد الفاسدين من فلول النظام المباد، وإن جاءت متأخرة.
ويشير إلى أن المشهد قد يشهد تبدلاتٍ مفاجئة في المواقف، فبعض الذين ظلوا يزايدون في الدعوة لاستمرار الحرب قد ينقلبون اليوم على مواقفهم، وقد يركبون موجة “السلام” الجديدة بحثًا عن موطئ قدمٍ في الترتيبات المقبلة. ومع ذلك، يلفت بولاد إلى أن الخطر الحقيقي يكمن في بقاء التيار المتطرف داخل هذا المعسكر، وهو التيار الذي رأينا سلوكه في ساحات القتال، وإصراره على إطالة أمد الحرب كخيارٍ وجودي.
محذرًا في الوقت عينه من أن هذا التيار يعمل الآن على بناء “ولايته” الخاصة بفقهٍ غريبٍ عن سماحة السودانيين وتقاليدهم الاجتماعية، ويحوّل الدين إلى أداةٍ للهيمنة لا لبناء الوطن. “وهذا ما يجب أن ننتبه له جيدًا”، كما يقول بولاد، “لأن خطره لا يقف عند حدود السلاح، بل يمتد إلى تشكيل الوعي وتخريب المجتمع ذاته”.
قناعة راسخة
ويرجح بولاد، أن تشكل مبادرة الرباعية – إذا أُحسن التعامل معها وجرى تفعيلها وطنيًا – بداية جادة لفرض تسوية سياسية، لا مدخلًا لتعقيدٍ جديد. ويستطرد موضحًا أن قوى الثورة المدنية في السودان، بعد كل التجارب المريرة منذ الاستقلال، وصلت إلى قناعة راسخة لا رجعة عنها: لا بديل عن الحكم المدني مهما كانت الظروف. وقد توّجت هذه القناعة بإسقاط نظام الإسلام السياسي بعد ثلاثة عقود من الاستبداد والهيمنة على مفاصل الدولة، لتجعل من شعار “السلطة المدنية” جوهر أهداف ثورة ديسمبر وأحد أعمدتها الأساسية.
ويضيف أن أي إصلاحٍ حقيقي لا يمكن أن يتم دون إعادة بناء مؤسسات الدولة كافة، وفي مقدمتها المؤسسة الأمنية والعسكرية، على أسس مهنية ووطنية، وهذا لن يتحقق إلا بسلطةٍ مدنيةٍ متوافقٍ عليها تُحدّد مهام المرحلة الانتقالية ومدتها. لذلك، فإن وجود جيشٍ وطنيٍ واحد يعبر عن جميع السودانيين ويحمي سلطتهم المدنية ليس مطلبًا سياسيًا فحسب، بل شرطٌ لبقاء الدولة ذاتها. أما تعدد الجيوش والميليشيات، فهو – كما يقول بولاد – من أخطر خطايا النظام البائد، ومصدر كل هذا الخراب.
ويذكّر بولاد بأن معظم قوى الثورة وصلت بالفعل إلى هذه القناعة، بل ووقّعت عليها في الاتفاق الإطاري المغدور بالحرب اللعينة. وكانت تلك المبادئ، كما يوضح، من أهم الأسباب التي دفعت فلول النظام البائد إلى إشعال الحرب والإصرار على استمرارها. فهم يدركون تمامًا أن أي وقفٍ للقتال سيفتح الباب نحو تسوية سياسية تُقصيهم نهائيًا من المشهد العام، ولهذا سعوا إلى إفشال كل محاولات الهدنة الإنسانية، بدءًا من منبر جدة وحتى اتفاق المنامة، وأعلن بعضهم ذلك صراحة دون مواربة.
قوى الثورة
ويتابع بولاد قائلاً إن أطراف الحرب، رغم ضجيجها العسكري، لن تستطيع الصمود أمام إرادة قوى الثورة والسلام متى ما استُعيدت الحياة المدنية الطبيعية. فقد أجبر الشعب السوداني الطرفين، حين كانا كتلة واحدة، على الجلوس إلى طاولة الاتفاق الإطاري، واليوم، وإن تفرقا، فإنهما لا يملكان في الواقع سوى مناطق نفوذٍ تحكمها “نص مكنة”، لا شرعية حقيقية فيها. ولهذا يعتقد بولاد أن إرادة الشعب ستنتصر، عاجلاً أو آجلاً، ولن تستطيع أي قوة – مهما طال أمد الحرب – أن تفرض وصايتها عليه إلى الأبد.
ويرى بولاد أن مبادرة الرباعية، بما تضمنته من بنودٍ حول الهدنة، وتيسير المساعدات الإنسانية، والانتقال إلى عملية سياسية مستقرة، جاءت في جوهرها متسقة مع ما تنادي به أغلبية القوى الوطنية والشعب السوداني. فهي وضعت قضية الحرب أمام المجتمع الدولي في إطارٍ أقرب إلى رؤية القوى المدنية، مما يمنحها فرصة جديدة لتصعيد الدور الوطني، وتكثيف الضغط على أطراف الحرب لإجبارها على العودة إلى المسار السياسي.
ويختم بولاد بأن أي تسوية حقيقية لا يمكن أن تنجح إلا إذا قامت على معالجة جذور الحرب لا مظاهرها، وعلى بناء جيشٍ وطنيٍ مهنيٍ واحدٍ وحكمٍ مدنيٍ متوافق عليه. ويضيف أن ضغط الرباعية يمكن أن يساعد في ذلك، لكنه لن يكون كافيًا ما لم يترافق مع بروز مركز مدني قوي وفاعل. “ففي التحولات الكبرى”، كما يقول بولاد، “لا تنشأ القوة المدنية إلا من رحم الأزمات، وهذه الأزمة تحديدًا قد تكون فرصة أخيرة لصناعة مركزٍ وطنيٍ جديد يعيد للسودان بوصلته ويخرجه من نفق الحرب إلى أفق الدولة المدنية الديمقراطية”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى