عيسى أبو لولو.. شيطان يوزع الموت في الطرقات

أفق جديد
عادةً ما يظهر عيسى أبو لولو وسط الجثث، كأنما الموت وطنه الذي لا يغادره، أو لعله ظله الذي لا يفارقه. في كل مرة تراه فيها، يكون الدم طازجًا، والهواء مشبعًا برائحة الموت. ظهر أخيرًا في فيديوهات من مدينة الفاشر، يصرخ في مرافقيه بصوتٍ كالحجر: “ما عايزين زول حي!”، عبارة تكثّف كل تاريخه، وتفضح نزعة القتل التي تسكنه كما يسكن الشيطان أجساد الممسوسين. لم يكن ذلك المشهد استثناءً، بل استمرارًا لمسيرة طويلة من الدم والدمار، بدأها منذ ظهوره الأول في معارك الخرطوم، ثم مصفاة الجيلي، وامتدت لاحقًا إلى دارفور، حيث تحوّلت الأرض إلى مسرحٍ مفتوحٍ لغرائز القتل التي تتغذى من روح هذا الرجل.
يصفه المقاتلون القدامى بأنه لا يبتسم إلا حين يرى الموت. “ما بشوف الراحة إلا عندما يسمع صوت الذخيرة”، قال أحد من عرفوه في الميدان. لم يكن يقاتل كجندي، بل كمن يبحث عن متعةٍ منحرفة في إزهاق الأرواح. في الفاشر، كما في الجيلي من قبلها، ظلّ يوزّع الموت كمن يوزع الخبز في سوقٍ مكتظ، لا يفرّق بين مدنيٍ أو عسكري، بين شيخٍ أو طفل.
الفيديو الذي انتشر له أمس على استحياء لم يكن سوى نافذة صغيرة على جحيمٍ واسع. يظهر فيه متّشحًا بزهوٍ قاسٍ، يوجّه رفاقه نحو جثث متفرقة في أحد أحياء الفاشر قائلاً: “ما عايزين زول حي!”، ثم يطلق النار دون تردّد. ذلك المقطع، الذي ظهر في مواقع التواصل ضمن عشرات المقاطع التي لا تقل فظاعة أعاد إلى الأذهان مذابح الجيلي، حيث أطلق الرجل الآتي من الجحيم؛ إذ باءت كل المحاولات لمعرفة إلى أي قبيلة ينتمي أو في أي قرية نشأ، فالكل ينفي معرفة سابقة به غير أنه أحد قادة الدعم السريع الميدانيين، أطلق موجة غضبٍ واسعة داخل وخارج السودان، وهو يقول: “أنا ما بعرف أسير ولا عايز عربية.. البقع في يدي يموت بس”، لكن بين الغضب والأسئلة، ظلّ الرجل يمشي مطمئنًا، وكأنه يعلم أن لا أحد سيحاسبه.
في معركة مصفاة الجيلي، التي تُعدّ من أبشع فصول الحرب، كان عيسى في قلب المذبحة. أكثر من 150 أسيرًا تمت تصفيتهم بدمٍ بارد، بعضهم أُطلق عليهم الرصاص وهم مقيدو الأيدي. قال أحد الناجين إن عيسى هو من بدأ التنفيذ بنفسه، وأنه صاح في جنوده: “اللي ما يقدر يقتل، يخلينا!”، فانسحب القليل، بينما انهمر الرصاص على الأجساد المرهقة. وفي نهاية اليوم، تحوّلت الرمال في المنطقة جنوب شرق السقاي إلى مقبرة كبيرة، تئنّ تحت أقدام القتلة.
لم يكن ذلك اليوم عاديًا داخل صفوف قوات الدعم السريع. فالقائد جلحة رفض المشاركة في التصفية، وقال غاضبًا: “نحن مقاتلون، ولسنا جزارين!”، لكن صوته ضاع وسط دوّي الرصاص، كم حدثني أحد جنود الدعم السريع المنتمين إلى عرقية جلحة، ويضيف القائد كان كثير الاعتراض على تصرفات آلة الموت التي دفع بها قادة الدعم السريع إلى الحرب، لم تمضِ أيام حتى اختفى جلحة، وهناك من يهمس بأنه تمت تصفيته بصمت، لأن الحرب لا تحبّ من يملك ضميرًا.
أما عيسى أبو لولو، واسمه الحقيقي الفاتح عبد الله إدريس، فقد ظلّ يتنقل بين الجبهات كروحٍ سوداء. ألقابه تتبدّل كما تتبدّل مواقع الموت: “اللواء”، “العميد”، أو ببساطة “الجلاد”. لا أحد يعرف من أين أتى ولا إلى أي جهةٍ ينتمي حقًا. حاولنا مرارًا التحقق من وضعه داخل الدعم السريع، لكن الإجابات كانت باردة، مشبعة بالتحايل: “عيسى مجرد مستنفر، ليس جزءًا من القوة النظامية”، هكذا قال أحد القيادات الميدانية وهو يخفض صوته، كمن يخشى أن يسمعه الشيطان ذاته.
لكنّ هذا النفي بدا أشبه بمحاولة لتبرئة الذات، لا أكثر. فالرجل الذي يقود عشرات المسلحين، ويتحرك بسيارات الدعم السريع، ويأمر وينهي، لا يمكن أن يكون مجرد “مستنفر”. ووفق شهادات ميدانية حصلت عليها “أفق جديد”، فإن أبا لولو يتلقى تعليماته مباشرة من ضباط بارزين في الجهاز الميداني للدعم السريع، وأن ظهوره في مناطق مختلفة يتم بتنسيق مسبق، خصوصًا في العمليات ذات الطابع “الانتقامي”، كما يسمونها.
بعد انتشار الفيديو الذي وثّق أحد جرائمه، أعلن متحدث باسم الدعم السريع تشكيل لجنة تحقيق. لكن كما جرت العادة، ظلّت اللجنة في الظل، لم يُعرف عنها شيئًا، ولم تُعلن نتائجها. وعندما تواصلنا مع أحد مسؤولي الإعلام في القوة، اكتفى بالقول: “التحقيق مستمر”، ثم أغلق الهاتف. كانت تلك الإجابة كافية لتأكيد أن شيئًا لن يحدث. فملف عيسى أبو لولو أثقل من أن يُفتح، وأخطر من أن يُمسّ.
اليوم، يواصل الرجل تجواله في طرقات الحرب، محاطًا بخوف الناس وصمت القيادات. كلما مرّ، خلف وراءه رائحة البارود، وجثثًا باردة. لا أحد يملك الشجاعة ليواجهه، ولا أحد يجرؤ أن يذكر اسمه في الميدان إلا همسًا.
وفي بلدٍ أنهكته الدماء، صار أبو لولو رمزًا للجحيم الذي انفلت من عقاله، دلالة على أن الحرب في السودان لم تعد بين جيشٍ ومليشيا، بل بين الإنسان وظله، بين من يزرع الحياة، ومن يتلذذ بتوزيع الموت.
ومع تصاعد فصول الحرب، لم يعد عيسى أبو لولو مجرد قاتلٍ منفلت من عقال القيادة، بل أصبح تجسيدًا حيًّا لانزلاق قوات الدعم السريع نحو منطقٍ جديد للحرب، يبتعد عن مفهوم “العمليات العسكرية” ليغرق في مستنقع الإبادة الممنهجة. إن حضوره وسط مشاهد القتل الجماعي، وتصويره لعمليات الإعدام بدمٍ بارد، يعكس تحوّلًا بنيويًا في طبيعة القوة نفسها؛ من مليشيا تسعى إلى السيطرة إلى كيانٍ يتغذى على الرعب وينشره كأداة حكم. فوجود أمثال أبي لولو داخل صفوفها لم يعد حادثًا عرضيًا، بل صار نهجًا مستترًا في بنية التنظيم، يغذّيه الصمت من أعلى الهرم واللامبالاة من العالم.
وبهذا المعنى، لا يمثل عيسى أبو لولو فردًا، بل ظاهرةً من ظواهر التوحش التي خرجت من رحم الحرب السودانية. هو المرآة التي تعكس تحلل الدولة، وضياع الضابط الأخلاقي في سلوك القوات المتحاربة، وتحوّل الإنسان إلى مجرد أداة قتل في يد آلةٍ عمياء. فحين يُترك أمثاله يوزّعون الموت في الطرقات دون حساب، فإن السؤال لم يعد عن شخصه، بل عن المصير كله: أيّ وطن سيولد من رماد هذا الجحيم؟





