هدنة الرباعية بين موافقة الدعم السريع و تحوّطات الجيش… هل يلتقط السودان أنفاسه؟
محمد عمر شمينا
من الصعب الحديث عن أي مبادرة سياسية في السودان اليوم من دون وضع حقيقة دامغة في الواجهة بان قوات الدعم السريع مارست خلال الشهور الماضية انتهاكات و فظائع لا تُحصى ، من القتل خارج القانون، وترويع المدنيين، والإستهداف العشوائي للأحياء السكنية ، إلى التمدد العنيف داخل مدن لم تكن جزءاً من دائرة الحرب في بداياتها. هذه الإنتهاكات ليست مجرد تقارير أو روايات متداولة ، بل واقع يعيشه الناس كل يوم ، ويجعل أي نقاش حول حلول سياسية محاطاً بظلال كثيفة من الألم والمرارة. ولذلك يصبح السؤال الأساسي ليس فقط من وافق على الهدنة ومن تحفظ عليها ، بل ما إذا كانت هذه الهدنة قادرة فعلاً على الحد من المأساة التي تتسع رقعتها يوماً بعد يوم.
ورغم هذا السجل المثقل بالجرائم، أعلن الدعم السريع موافقته على الهدنة التي طرحتها الرباعية الدولية ، في خطوة بدت للكثيرين محاولة لتجميل الصورة أمام المجتمع الدولي ، أو محاولة للظهور بمظهر الطرف الأكثر مرونة. غير أن موافقته وحدها لا تكفي، خصوصاً أن الوقائع على الأرض إستمرت في الإتجاه المعاكس تماماً ، فقد إستهدف الدعم السريع مدناً مثل عطبرة شمالاً، وأمدرمان قرب العاصمة، والدلنج في كردفان ، متجاهلاً أي إشارة إلى التهدئة ، وكأن موافقته على الهدنة ليست سوى بيان سياسي بلا أثر عملي. هذا التناقض بين القبول السياسي والانفلات الميداني يجعل الهدنة نفسها في وضع هشّ، إذ لا يمكن لأي اتفاق أن يحمل معنى حقيقياً إذا لم يُترجم إلى توقف فعلي للعمليات.
أما الجيش السوداني ، فموقفه إتسم بقدر كبير من التحفظ، وهو تحفظ مفهوم في سياق قراءة الواقع. فالجيش ينظر إلى الهدنة من زاوية أوسع من مجرد وقف إطلاق النار، يرى أن أي خطوة يجب أن تُربط بضمانات تحمي الدولة وأجهزتها من الإنهيار الكامل، وأن لا تكون الهدنة منفذاً لإستعادة الطرف الآخر لأنفاسه ثم العودة لجولة أشد. الجيش يدرك أن فقدان المواقع الحساسة أو التراجع دون ترتيبات واضحة قد يضع البلاد في نقطة لا رجعة فيها، ولذلك يبدو رد فعله محسوباً بعناية ، لا رفضاً للسلام بحد ذاته، ولكن رفضاً لسلام هشّ مبني على وعود بلا التزامات.
وبين هذين الطرفين، يبرز سؤال آخر لا يقل أهمية أين هي القوى المدنية؟ ففي لحظة يفترض أن تكون فيها هذه القوى الأكثر التصاقاً بمعاناة الشارع، تبدو اليوم موزعة بين بيانات مترددة ومواقف حذرة، بلا رؤية جامعة حول الهدنة أو حتى حول شكل الحل السياسي الممكن. بعض القوى تتعامل مع المبادرة بعقلية الخشية من الإصطفاف، والبعض الآخر يقدّم مواقف تُشبه المناورات التكتيكية أكثر مما تشبه الرؤية الوطنية. هذا الغياب أو التشتت سمح للأطراف المسلحة بأن تحتكر المشهد بالكامل، وبات المدنيون الذين تُفترض هذه القوى أنها تمثلهم بلا صوت حقيقي في قلب النقاش. ولو إمتلكت القوى المدنية خطاباً موحداً ورؤية واضحة، لكانت اليوم طرفاً فاعلاً، لا مجرد مراقب يُعلّق على الأزمة من خارجها.
تأتي هذه المواقف المتباينة في لحظة يشير فيها الميدان إلى شيء مختلف تماماً. فقد حذّر المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، من وجود (إستعدادات واضحة) لجولات جديدة من القتال، خصوصاً في إقليم كردفان، مؤكداً أن لا مؤشرات على إحتواء التصعيد بل العكس تماماً كل التطورات تشير إلى مسار متجّه نحو تكثيف العمليات. هذا التحذير لا يمكن تجاهله، لأنه يكشف أن الوقت ليس في صف أحد، وأن الحرب تشبه كتلة نار تتدحرج في إتجاهات لا يمكن التنبؤ بها. وإذا لم صدقت توقعات تورك، فإن الهدنة مهما كان شكلها ستتحول إلى ورقة لا قيمة لها ما لم تُحاط بضمانات دولية صارمة وبإرادة داخلية حقيقية لوقف النزيف.
وفي ظل هذه الفوضى المتشابكة، تبقى الحقيقة الأكثر وضوحاً هي أن البلاد وصلت إلى درجة من الإنهاك تجعل أي خطوة توقف الحرب، ولو جزئياً، وتقلل معاناة المدنيين، تستحق الترحيب. ليس من الواقعية أن يُنظر إلى الهدنة بوصفها حلاً كاملاً، ولا بوصفها قاعدة كافية لتسوية سياسية شاملة، لكنها قد تكون نافذة صغيرة يحتاج إليها الناس قبل أن يختنقوا تحت غبار الحرب. إن المدنيين اليوم لا يملكون ترف الإنتظار حتى يتفق الساسة والعسكريون على خارطة طريق مكتملة،هم يريدون فقط أن تتوقف القذائف عن السقوط فوق رؤوسهم، وأن تحصل الأسر على طعام وماء، وأن تجد المستشفيات ما يكفي لإنقاذ حياة من تبقى حياً.
لكن الإشكال أن الهدنة المطروحة جاءت في لحظة يحاول فيها كل طرف تحسين موقعه قبل أي محادثات مستقبلية. الدعم السريع يريد أن يظهر بمظهر الطرف الذي يقبل بالحلول السياسية رغم سجل إنتهاكاته. والجيش يريد أن يضمن أن قبول الهدنة لن يتحول إلى ثغرة تُستغل ضده في الميدان. والقوى المدنية تبدو عاجزة عن صياغة موقف موحد يستطيع أن يمنح الهدنة وزناً أخلاقياً وسياسياً. و الرباعية نفسها تتحرك بدافع الخوف من توسع المعركة لا بدافع قناعة راسخة بالحل. وكل ذلك يجعل المبادرة مزيجاً من الضرورة والاستغلال السياسي، لا من الإرادة الصافية.
ومع ذلك، فإن هذا الخليط نفسه قد يمنح الهدنة فرصة، لأن الأطراف مهما بدا خطابها فإنها تدرك أن الحرب الطويلة غير قابلة للاستمرار. فالدعم السريع منهك رغم تمدده، والجيش يواجه ضغطاً هائلاً على خطوط الإمداد، والمجتمع الدولي بدأ يضيّق الخناق على من يعرقل وقف إطلاق النار. وهذا ما يجعل الهدنة، مهما كانت هشة، خطوة لا يمكن الاستهانة بها، لأنها تعبّر عن لحظة تلتقي فيها مصالح الأطراف على كره، لا على ودّ. ومثل هذه اللحظات قد تكون خطرة وصعبة، لكنها كثيراً ما تكون قادرة على صناعة اختراقات لا تصنعها اللحظات الهادئة.
الهدنة إذن ليست نصراً لأحد، ولا هزيمة لأحد، بل محاولة لالتقاط الأنفاس في معركة أنهكت الجميع. وإذا نجحت في وقف ولو جزء من العنف، فإن ذلك وحده سبب كافٍ للترحيب. فالحرب التي تلتهم المدن اليوم لا تترك شيئاً للغد، ولا تُبقي ظهراً يمكن لأي طرف أن يستند عليه. السودان يحتاج إلى أي خطوة توقف الانهيار، وتمنح المدنيين فرصة للبقاء. وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً، هل تكون الهدنة بداية لتغيير حقيقي، أم مجرد هدنة بين جولتَين؟ الجواب لم يتشكل بعد، لكن ما هو مؤكد أن الشعب السوداني يستحق توقف هذه الحرب أكثر من أي حسابات سياسية أو عسكرية. لذلك، فإن أي خطوة تسهم في حماية المدنيين وتخفيف معاناتهم يجب أن تُستقبل بترحاب، مهما كانت محدودة، لأن البديل الوحيد اليوم هو اتساع الجحيم.





