“نسيت القبلة من طول الغياب” عناق وبكاء وصور معلّقة… تفاصيل مؤلمة لعودة منى إلى منزلها في الخرطوم

أفق جديد

وثّق المراسل الصحفي جوست باستماير تفاصيل جولته الميدانية في مدينة الخرطوم، سرد خلالها قصة النازحة منى أحمد التي عادت إلى منزلها للمرة الأولى منذ فرارها من العاصمة قبل عامين ونصف، في خضم الحرب الأهلية التي حوّلت المدينة إلى أطلال وذكريات دامية.

كانت العودة أشبه برحلة إلى مدينة أخرى لا تشبه الخرطوم التي غادرتها منى يومًا. الحافلة الصغيرة التي أقلّتها عبرت طرقًا محطّمة، وجدرانًا مثقوبة بالرصاص، ومبانٍ فقدت ملامحها. بدا واضحًا أن خط المواجهة في الحرب يمرّ عبر قلب المدينة، وأن الخرطوم باتت مجرد ظلّ لذاتها.

من نافذة الحافلة، ظلت منى تحدق بصمت، واضعة يدها على فمها، في مشهد يعكس حجم الصدمة التي اعتلت ملامحها. كانت تتأمل الخراب الذي لم يترك مبنى إلا ووصل إليه؛ ثقوب الرصاص، آثار القذائف، والنوافذ المحطمة التي تعكس قسوة الحرب الطويلة.

عندما وصلت إلى حي العرضة، حيث يقع منزلها الصغير المكون من طابق واحد، وجدت أنه لا يزال قائمًا وسط منطقة شبه خالية من الحياة. في الحديقة الأمامية المليئة بالأشجار، كانت بانتظارها صديقتها هدى، وهي نازحة كانت تهتم بالمنزل طوال الأسابيع الماضية. فور رؤيتهما بعضهما، ارتمتا في الأحضان وانفجرتا بالبكاء، قبل أن تسقط منى على الأرض وترفع يديها بالدعاء، في لحظة امتزج فيها الشكر بالخوف والارتباك. حاولت هدى مداعبتها قائلة: «القبلة ما كده». فضحكت منى وسط دموعها، معترفة بأنها نسيت اتجاه القبلة من طول الغياب.

داخل المنزل، كان المشهد أكثر إيلامًا. فقد سُرقت معظم ممتلكاتها، ولم يبقَ سوى بعض الأثاث البسيط الذي يعود لصديقتها هدى. وفي الردهة المؤدية إلى غرف النوم، لم تتمالك نفسها وانفجرت بالبكاء، تمسح دموعها بغطاء رأسها الوردي. لم تستفق إلا عندما رأت صورتين لازالتا صامدتين على الجدار: صورة ابنها وصورة والدتها الراحلة. اقتربت منهما ببطء، ثم أنزلتهما وضمتهما بقوة إلى صدرها قائلة: «الحمد لله».

ورغم فرحتها الغامرة بعودة ولو مؤقتة إلى منزلها، فإن منى لا تخفي مخاوفها المتزايدة من توسُّع سيطرة قوات الدعم السريع بعد سقوط الفاشر، وما قد يعنيه ذلك من تهديد جديد لسلامة العاصمة وسكانها. لكنها، في الوقت نفسه، تؤمن بأن لا خيار أمام السودانيين سوى الصمود.

قالت منى، بصوت يحمل خليطًا من الإصرار والحزن: «علينا أن نواصل المسير. الخرطوم يجب أن تستمر، والسودان يجب أن يستمر. واجبنا إعادة بناء وطننا، مهما كانت الصدمة كبيرة. لكن الحقيقة المؤلمة أن الخرطوم لن تعود كما كانت أبدًا».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى