“الطيب” و”بيلو”.. “مقاتل”.. حجة للدفاع عن المواقف!
عادل حسون
كلما يمضي الوقت على حرب أبريل السودانية المأساوية يتضح أن إجبار أطراف الحرب على وقف الحرب يتوقف فقط على تغير العقلية الحاكمة داخل القوات المسلحة وقوات الدعم السريع من الناحية السياسية والأخلاقية. لقد كانت سيطرة العسكريين على الحكم على مدى عقود المسبب إلى اختلال تصوراتهم للسلام بحيث أنهم لا يرون ما هو واضح أمام أعينهم أن الحرب هي في الأصل بينهم كعسكريين وأنه لادخل للمدنيين بها، وأنه أي تضليل خلاف ذلك يحلو للأطراف القول به لن يبقى أمامهم خيار آخر سوى التوجه الجدي لحلّها قبل أي سيناريوهات مجهولة يمكن أن تنزلق إليها الحرب الوحشية والبلاد من ورائها والعسكريين ككباش الفداء مثلما يحدث مع كل تغيير عنيف في تاريخ السودان. وإذ ذاك بالتأكيد لن تكون لهذه الحرب ثمة علاقة بأي تسميات مجافية لحقيقة الحرب يطلقها عليها المتحاربين.
إن هذيّن الرجلين من الجيش السوداني، اللواء. عمر محمد الطيب والعقيد الركن. عثمان جعفر بيلو، مع اختلاف الأجيال والسنوات، مثالان يؤكدان على صحة ذلك الاستنتاج. فاللواء. عمر الطيب الذي تخرّج في (الدفعة العاشرة) من الكلية الحربية منتصف خمسينيات القرن العشرين هو نفسه في ذات امتداد الخيارات الخاطئة المتبناة من العسكريين فيما يخص الحرب والسلام وعلى نحو أو آخر، العقيد. عثمان بيلو ابن (الدفعة ٤٨) كلية حربية في آواخر تسعينيات القرن نفسه. على أية حال كلاهما أكد بوضوح أنه “مقاتل” وما كان له سوى أن يقاتل إذا أراد خصومه في الجيش غير ذلك. لقد وردت عبارة “مقاتل” اللافتة على لسانيهما ولكن من أدراه منهما أنه يقف في الجانب الصحيح وليس المذنب؟. الصراع بين العسكريين قديم بما في ذلك إنشقاق الجيش والدعم ودخولهما في الحرب المدمرة الراهنة ومثاله هنا إنشقاق العقيد بيلو من القوات المسلحة وانضمامه إلى قوات الدعم السريع شبه العسكرية، أو إنقلاب قيادة الجيش إبّان الثورة الشعبية ضد نظام الرئيس. نميري العام ١٩٨٥م وإنحيازها للشارع على غير رغبة النائب الأول للرئيس -حينها- اللواء. عمر الطيب- وبالتالي تغيير النظام. القصتان وردتا في لقاء اللواء عمر محمد الطيب مع الإعلامية. عفراء فتح الرحمن، وكذلك في لقاء العقيد. عثمان جعفر بيلو مع الإعلامية. سوما المغربي. كلا القائدين العسكريين ادعى أنه في الموقف الصحيح وافترض الجُبن في الآخرين وأنهما مقاتلان أساسا.
ملاحظتان أخريان جديرتان بالتوقف عندها.. الحفاظ على الشرعية والدفاع عنها وانتظار عودة الرئيس المريض (جعفر النميري- آنذاك) من الخارج (الولايات المتحدة) لإعادة الأمور إلى نصابها من قوة شخصيته وكريزماه الخاصة التي لا تقاوم. رغم أن ذلك غير صحيح تماما بل أن اللواء عمر أخفى في سرده واقعة مثبتة أوردها اللواء. عثمان عبد الله رئيس هيئة العمليات وقتها ووزير دفاع حكومة الانتفاضة فيما بعد حينما ذكر في لقاء تلفزيوني مع الإعلامي. عادل سيد أحمد، بأن قادة الوحدات والمناطق العسكرية حول العاصمة (الخرطوم, أم درمان, الخرطوم بحري, وجبل أولياء) في اجتماع القادة الذي دعا إليه وزير الدفاع والقائد العام الفريق أول “المشير- فيما بعد” عبد الرحمن سوار الذهب بمقر القيادة العامة للقوات المسلحة يوم الجمعة مستبقا به خروج المظاهرة الضخمة في اليوم التالي لذلك الاجتماع والتي كانت قد دعت إليها الأحزاب ونقابات المهنيين صبيحة السبت السادس من أبريل يوم إعلان تغيير النظام عزم قادة الجيش الإطاحة بالنظام مهما يكون الثمن. قال اللواء عثمان عبد الله أن النائب الأول اللواء عمر وهو ضابط أقدم من جميع أعضاء القيادة في الاجتماع واجه القادة المجتمعين قائلا بأن ما يجري منهم في هذا الاجتماع إنما هو “انقلاب” على الشرعية. وكان اللواء عمر قد قال في المقابلة التلفزيونية معه أنه طلب من الفريق أول. سوار الذهب ابن دفعته ومرؤوسه من الناحية الدستورية بصفة اللواء. عمر النائب الأول لرئيس الجمهورية القائم بأعمال الرئيس بالفعل تطبيق الخطة المتفق عليها وقوامها: إستصدار أمر بتوقيع قائد الجيش بإستدعاء قوة الاحتياط الخاصة في العاصمة الخرطوم والمجهزة لمثل هذه الظروف للتدخل الفوري ووقف المتظاهرين عند حدهم واعتقال السياسيين وتثبيت النظام بالقوة. لقد كان اللواء عمر واضحا للغاية وكان ذلك في حياة الرئيس الانتقالي للمجلس العسكري الفريق سوار الذهب تأكيده في غير مرة خلال المقابلة :”أن لولا خيانة قيادة الجيش وانصياعها لرغبات ومخططات السياسيين من رجال الأحزاب، لما سقط النظام”.
أيضا أغفل عمدا تقدير الموقف الذي خلصت إليه قيادة الجيش في مؤتمر القيادة يوم الجمعة بحسب رواية اللواء عثمان عبدالله للتاريخ والقائم على تقارير الاستخبارات العسكرية الموثوقة عن التحرك الضخم في الشوارع من الجماهير الغفيرة والسياسيين “المتحفزين” والذي لا يمكن السيطرة عليه مما يؤكد خطورة الموقف على الأوضاع في البلاد. كما أهمل اللواء الطيب بوضوح حقيقة وجود ضغط على قيادة الجيش والفريق سوار الذهب من قبل أواسط الرتب العسكرية والذين شكلوا لوبي قوي على قادتهم من جنرالات الجيش لتسلم السلطة والإطاحة بنظام مايو المتداعي واتحاده الاشتراكي المتكلس وإقامة الدولة المدنية. إبن قبيلة “الفلاتة” السودانية العريقة العقيد عثمان بيلو وجد أساس لإعلان أصول شخصيته العسكرية في صفة “المقاتل” ولكن في سياق سياسي يجعل لعدم الثقة في الخطاب قناعة مفرغ منها لقربها من الأذهان. وكانت الانتقادات الواضحة التي ووجه بها انسلاخ هذا الضابط من الجيش، عدم جهره بالصوت المعارض على مدى السنين والصعود في الرتب العسكرية مما يصعب على المتلقي فهم فكرة “الانقلاب الجهوي” في الجيش لشيوع “العنصرية” من ضباط نهر النيل والشمالية السودانية ضد الضباط من قبائل أخرى محددة تعتبر داعمة لمليشيات الدعم السريع في غرب السودان ودارفور. لكنها قد تبقى في الأذهان على كل حال. استحضار قصص الفساد المالي والأخلاقي لكبار القادة في الجيش خلال الاعتراض العلني للضابط المنشق إذا وسمت بالتشويق فقد لا تحظي بذات الأهمية. بالأخير الفساد ضرب بأذرعه جميع مؤسسات الدولة وليس القوات المسلحة وحدها. وإن كان أمرا غير مقبول ومستهجن.
لماذا صمت كلاهما عن الوقائع التي قادت إلى ذلك. إن كلا القائدين ذكر في تبريره لصحة موقفه بأنه “مقاتل”. لقد ذكرها النائب الأول للرئيس اللواء. عمر الطيب عندما واجهته المحاورة بما إذا كان قد فكّر في مغبة الوقوف ضد قيادة الجيش والانقسام الذي يمكن أن يقع وأثره على الأمن القومي للبلاد. لكن قائد الجيش وكبار ضباط قيادته كانوا قد حسموا أمرهم على تسلم السلطة وهو ما يعني “الخيانة” في نظر الجنرال الطيب وأيضا يوضح الإستسلام العاقل منه للتوجه العام وعدم مقاومة التيار الجارف. يمكن تصور اللواء عمر الطيب إذا كانت لديه قدرة للوصول إلى قوات التدخل الإحتياطية لربما أشعل حربا شعواء على السلطة في قلب الخرطوم في تلك الأيام من ١٩٨٥م. لقد كانت قناعته أن الشارع وحده ما كان له إسقاط النظام لولا خيانة قيادة الجيش. على كل الخيانة والتآمر ليستا طارئتين فقد حدثت اشتباكات الصراع الى السلطة داخل الجيش وبينه وبين خصومه من سياسيين وعسكريين في ١٩٧١ وفي ١٩٧٦ و٢٠٠٨ على سبيل المثال. في حقيقة الأمر يغلب على كبار الكتاب الإسلاميين مثل عبد الماجد عبد الحميد على أن التغيير في الحادي عشر من أبريل ٢٠١٩م لم يكن إنحياز من المجلس العسكري إلى الشعب في الشارع ولكنه إنقلابا من مجموعة مارقة من كبار الضباط لطموحات شخصية أو لحساب آخرين داخليا وخارجيا. لا شك أن كل ذلك ينتهي إلى ضرورة الإصلاح العسكري وتغيير المفاهيم الخاطئة لدور العسكريين في الحياة العامة ومنظومة الحكم وذلك لبناء دولة حديثة رغم الاحباط من الحرب الهوجاء القائمة ومطامع العسكريين لا سيما الجيش السوداني في السيطرة على الحكم في المستقبل. لقد كانت في الماضي صراعات هؤلاء وطموحاتهم غير المشروعة في التسلط والتحكم مدعاة متواصلة لضعف الدولة وتخلفها وشقاء الشعب ومعاناته. هي في الحاضر تظهر بوضوح في الحرب المستعرة الحالية. سيكون لتواجد الجيش في المستقبل بالكيفية التي يطمع فيها أو خصمه في الحرب إذا أخلف وعد تسليم السلطة للمدنيين، سوء حظ كبير وخيبة أمل عظمى بالنسبة للشعب.
عادل حسون
adilhassoun@hotmail.com
# أوقفوا_ الحرب
# حماية_ المدنيين
# Stop the_ War
# Protect the_ Civilians