قراءة في الجذور الفكرية للحركة الإسلامية السودانية والحصاد المر!! (2)
التاريخ الفكري للحركة الإسلامية من التطفل إلى التجريب الاعتباطي
عبدالعزيز حسن علي
استعرضت الحلقة الأولى من هذه السلسلة، بعض الشهادات الموثقة لقادة الحركة الإسلامية السودانية في توصيف حصاد المشروع الإسلامي في تجربته العملية المتمثلة في دولة الإنقاذ. وخلصت الحلقة إلى ملاحظات جوهرية حول شهادات الإسلاميين على عهدهم ( الحضاري) كان أهمها أن القاسم الأكبر بين هذه الشهادات هو الحديث عن الفساد المالي والأخلاقي والاعتراف به والعجز عن مقاومته بواسطة التنظيم الإسلامي. وهو أمر مثير للانتباه والدراسة لجماعة تدَّعي الطهر، والعفاف، والريادة وتزعم أن دستورها القرآن، وقدوتها الرسول الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه.
الكائن الطفيلي كما يعرفه علم الأحياء بأنه ” كائن حي يعيش في أو على كائن حي أخر، ويأخذ منه الغذاء، وإن الطفيلي لا يمكنه أن يعيش بنفسه”. هذا الوصف يصلح تماماً لوصف فكر الحركة الإسلامية، فالحركة الإسلامية السودانية طوال تاريخها لم تقدم مشروعاً فكرياً متكاملًا تنقل به المسلمين كما تدعي من الجمود الفكري إلى الإحياء والمعاصرة، وإنما ظلت الحركة دوماً تتطفل على بعض الأفكار والقيم والتجارب هنا وهنالك إما بتشويه استخدامها أو بتحويلها إلى شعارات فضفاضة ليس لها جذور أو نظرية متكاملة التناسق تتحقق بها الأصالة والريادة وتحترم بها عقل الإنسان وكرامته.
وللتدليل على تطفل الحركة الإسلامية (الفكري) لا نجد أفضل من الدكتور حسن الترابي نفسه، الذي أورد في كتابه “الحركة الإسلامية في السودان المنهج والكسب والتطور” أن الحركة “كانت عالة في زادها الفكري والتنظيمي على الخارج، وكانت تتناول غالباً أدبها من كتب الإخوان المسلمين في مصر أو كتابات المودودي”. ويضيف الترابي “أخذت الحركة أيضًا شيئًا من منهج التنظيم والحركة من مصدر قد يبدو غريباً وهو الحركة الشيوعية التي كانت غالبة في الأوساط الطلابية وصاعدة في الوسط الحديث عامة”.
رغم حصر الترابي لمصادر زادهم الفكري والتنظيمي في ثلاثة مصادر، وهي حركة الإخوان المسلمين المصرية، وأفكار أبو الأعلي المودودي والحركة الشيوعية السودانية، لكن الحقيقة أن الترابي تطفل واستنسخ أفكاراً لآخرين ونسبها لشخصه ولم يشر إلى ذلك مطلقاً، مثل اجتهادات الشهيد محمود محمد طه، والمفكر الجزائري مالك بن نبي، والمفكر الشيعي اللبناني محمد حسين فضل الل ، وأبو الحسن الماوردي، بالإضافة إلى ما أورده الأستاذ الحاج وراق في كتابه المميز “حركة الترابي”، الذي أثبت فيه “أن الترابي تطفل على مائدة الفكر الفلسفي الألماني فأخذ من ديفيد هيوم وهيغل”.
والملاحظ لمساهمات الدكتور حسن الترابي المنشورة إنها تفتقد للأمانة العلمية لأنه لا يشير فيها لأحد ولا يحدد أي مراجع استند عليها، ولعل في هذا حيلة للتطفل على موائد الآخرين الفكرية دون محاسبة، وأيضاً للتضليل لاتباعه بأنه وصل لهذه الأفكار كفاحاً. ولعل هذا الأمر يثير التساؤل حول إذا كان يمكن اعتبار الدكتور الترابي في عداد المفكرين حقاً! أم إنه مجرد منظم سياسي لا تحده حدود علمية، أخلاقية أو وطنية، اعتمد التضليل، والتلفيق والمواقف المتناقضة في ميكافيلية مازجت بين الثورة والثروة ووضعت السلطة نصب عينيها وسارت إليها “لا تبالي بالرياح”.
ولأن الأحزاب السياسية تنشأ لحاجة في المجتمع يحدد الترابي في نفس المرجع أعلاه أسباب نشوء الحركة الإسلامية السودانية بأن السبب في ذلك يعود إلى “تنكب القادة الوطنيون لشعائر الدين وشرائعه، وتورطوا في الفشل والفساد، وأخفقت أكثر النظم في توطيد الطمأنينة والاستقرار للمجتمع أو في تأمين حرمة الوطن والدفاع عن ديار الإسلام، وهكذا ازدحم العالم الإسلامي بصور الفساد والفجور في الأخلاق والاستبداد والاضطراب في السياسة والخيبة والتخلف في الاقتصاد ووجوه الاستعطاف والانكسار الدولي في وجه الصهيونية والإمبريالية”. وبالطبع لن يجد القارئ وصفاً أفضل من هذا لحصاد تجربة الإسلاميين في الحكم.
يجد الباحث في فكر الحركة الإسلامية السودانية صعوبة حقيقة في الحصول على كتاب يوضح نظريتها في الحياة والحكم، وحتى البرامج الموجودة هي برامج سياسية انتخابية في شكل شعارات أكثر من أن تكون دراسات جادة توضح أسس التداول السلمي للسلطة، أو محاربة الفقر أو ترسيخ قيم العدالة الاجتماعية. يستثنى من هذا الحكم كتاب أوحد للدكتور الترابي بعنوان “السياسة والحكم – النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع”، الذي يشير عنوانه ومحتواه إلى جانب واحد وهو السياسة والحكم.
ولعجز الحركة الإسلامية عن تقديم نظرية حقيقية من فقه الواقع تعتمد المواءمة بين التراث والحداثة اكتفت الحركة بالشعارات التي تبشر بقيادة العالم أجمع وأسلمته، فانتهت إلى التجريب الاعتباطي مجبره بوقائع الحكم والحياة لا الشعارات الموزونة التي تصلح للغناء والحشد وليس بناء الدول والحكم الرشيد، فاضطرت إلى القبول بنائب مسيحي للرئيس في دولة الإسلام، والقبول بالقروض الربوية وإعلاء فقه الضرورة.
يعرف الدكتور حسن الترابي الحركة الإسلامية السودانية بلأنها “حركة تجديد إسلامي منهجها الإسلام وتلتزم بالشريعة الإسلامية”..
نواصل في الحلقة القادمة مناقشة مفهوم الشريعة الإسلامية في فكر وممارسة الحركة الإسلامية السودانية، وثم نسعى إلى الإجابة على السؤال المركزي: هل يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية في عصرنا الراهن؟