الشرق.. الانفجار الأخير
أفق جديد
“الملفات أكثر تعقيدًا من الابتسامات المرسلة أمام الكاميرات”
هكذا افتتح رجل المخابرات الملم بملفات القرن الإفريقي وعمل فيها لفترة طويلة من الزمان حديثه مع “أفق جديد” مردفًا ذلك بضحكة وعبارة “شر البلية ما يضحك”، الأمر لا يبدو كما ظهر، الملف الرئيسي في زيارة البرهان لإرتريا كان مجموعة من المليشيات التي دربها أسياس أفورقي بحجة إنها ستعود لتقاتل إلى جانب الجيش ولكن ذلك لم يحدث، وقد احتفظ بها الرجل الذي أرسل تهديدًا واضحًا ظاهره “المن وباطنه العذاب” ملوحًا بأنه سيتدخل ويكون طرفًا في الحرب حال وصولها إلى الولايات الشرقية ولكنه لم يحدد إلى أي أي الأطراف سيكون.. البرهان خريج الكلية الحربية السودانية التي تقوم كل مناهجها على أن الخطر على السودان هو حدوده الشرقية لذا لا أظنه يثق في أفورقي ويعلم إنه يظهر خلاف ما يبطن.
أجمع كل من تحدثنا إليهم بأن الشرق الآن على “شفا جرف هاوٍ” ومرشح للانفجار في أية لحظة، فبإعلان نجل زعيم قبيلة الرشايدة مبارك حميد بركي خلال أغسطس الماضي عن تشكيله لمليشا باسم قوات درع شرق السودان، بلغ عدد المليشيات المسلحة المعلن عنها 8 مليشيات يقدر مراقبون عدد قواتها مجتمعة بإكثر من 5 آلاف مسلح. ويقول الناطق الرسمي باسم حزب التحالف الوطني السوداني القيادي في تحالف القوى الديمقراطية المدنية “تقدم”، شهاب إبراهيم الطيب “يشهد شرق السودان توترات متزايدة نتيجة لتعدد المليشيات المسلحة والاختلافات المتجذرة في تمثيل الشرق بين المجموعات الاجتماعية المختلفة، هذه العوامل تثير تساؤلات جدية حول إمكانية اندلاع حرب أهلية في الإقليم”، ويحذر شهاب في حديثه لـ”أفق جديد” من أن أي صراع ينشب في الشرق سيؤدى إلى الانهيار الكامل للدولة السودانية، وهو الرأي ذاته الذي يذهب إليه الصادق أونور من أبناء البجاء قائلًا لـ”أفق جديد” أن “حكومة بورتسودان” بحسب مسماه ترقص على حافة الجحيم بمساعدتها في انتشار السلاح، وإغماضها الطرف عن دول إقليمية لديها مطامع جدية وبائنة في أراضيه، وستدفع وتدفع إنسان الشرق فاتورة عالية جدًا.
وتتفق التقارير الدولية والمحلية على أن ولايات شرق السودان أصبحت متخمة بالعديد من الميليشيات والحركات المسلحة مما خلق واقعاً مخيفاً في ظل بيئة صدامية يغذيها غبن ودعاوى التهميش والظلم، وقد يتحول السلاح القبلي إلى وسيلة لانتزاع الحقوق، وهو ما حذّر منه شهاب الطيب بقوله “إن الاختلافات المتجذرة في المنطقة تشكل خطوط الانقسام العميقة. هذه الاختلافات غالبًا ما تكون مرتبطة بمسائل الهوية، والتوزيع غير العادل للموارد، والتاريخ الطويل من المظالم، كما تعبر يشكل أو آخر عن عن صراع النفوذ الإقليمي والدولي الذي تتجلى مظاهره في الصراع الاجتماعي. بينما يرى الدبلوماسي والكاتب الإريتري فتحي عثمان أن ظهور أسياسي أفورقي في المشهد السوداني بهذا الحجم لن يكون لمصلحة السودان ولا لإعادة الاستقرار فيه، فأفورقي بحسب فتحي عثمان يرى السودان وإثيوبيا هما المهددان الحقيقيان لبلاده وحكمه. ويضيف في مقال له بعنوان “أفورقي وأزمات السودان الواقع والمأمول” “بخصوص موقف أفورقي من الأزمة في السودان يجب النظر إليه ضمن منظوره الكلي للبلاد”. ويمضي في مقالته مفسرًا ” لفهم دوافع سياسة أفورقي الخارجية تجاه السودان وإثيوبيا بشكل خاص علينا الرجوع أولاً لحقائق الجغرافية السياسية. فأفورقي يعرف بأن حكمه محاط بدولتين عملاقتين من ناحية التأثير بسبب الموارد البشرية والطبيعية الهائلة، والحدود المشتركة والروابط التاريخية والاجتماعية، وأن هذا لا يبعث على الاطمئنان، بذلك يكون الوضع الأفضل هو بقاء هذين العملاقين في حالة ضعف دائم. فإرتريا، بحسب أسياس يمكن أن تتحول إلى وجبة دسمة سهلة التناول لأحد العملاقين أو كليهما معاً”.
وتتطابق رؤية الدبلوماسي الإرتري مع ما حدثنا به ضابط الاستخبارات السابق وهو يعلق على زيارة البرهان الأخيرة لإرتريا، مؤكدًا أن قائد الجيش السوداني يعلم تمام العلم أن مواقف أفورقي دوافعها ليست مصالح السودان وإنما مطامع الرجل، وأشار إلى أن أفورقي درب منذ اندلاع الحرب ما لا يقل عن خمس مليشيات علنًا ووقف على تجهيزاتها ولم يعد منها إلى السودان مقاتل غير مجموعة الأمين داؤود، بينما لا تزال مجموعات أخرى داخل الحدود الإرترية مثل قوات تحرير شرق السودان بقيادة إبراهيم دنيا، ومؤتمر البجا القومي، بقيادة موسى محمد أحمد، ومؤتمر البجا المسلح بقيادة عمر محمد طاهر، كل تلك المليشيات تدربت في إرتريا ولكن لم نرها في اصطفاف حرب الكرامة، مؤكدًا حسب معلوماته أن هذا الملف هو الملف الأول في الزيارة والأهم.
من ناحيته يرى المتحدث باسم التحالف السوداني أن وجود العديد من المليشيات المسلحة في المنطقة يؤكد تمامًا على عدم استقلال الإرادة الوطنية، فالمليشيات التي تشكلت في شرق السودان لكل منها أجندتها الخاصة والمرتبطة بمواقف العديد من الدول في الإقليم، كما يزيد من حدة التوتر وعدم الاستقرار التنافس على النفوذ المرتبط مباشرة بالتدخلات الخارجية التي تعبر عن مصالح بعض الدول المباشرة في إقليم شرق السودان، ما يسهم في تعقيد المشهد الأمني، وبينما يذهب شهاب إلى تحميل الحكومة السودانية وضعفها المسؤولية، يتجه مركز التقدم العربي وهو مؤسسة بحثية مقرها العاصمة البريطانية إلى التحذير من ما أسماه بأطماع تاريخية إرترية في إقليم كسلا، ويرجح في دراسة نشرها على موقعه في الإنترنت 17 نوفمبر أن التحولات التي طرأت في تحالفات النظام الإرتري في شرق السودان، إلى توقعاته بأن السودان سيغرق في فوضى طويلة الأمد وأن تلك الفوضى ستؤثر على إرتريا وبالتالي لابد من الاحتياط لها.
ويدعم الخبراء والسياسيون الذين تحدثوا إلى “أفق جديد” فرضية مركز التقدم العربي والقائلة بإمكانية غرق البلاد وبالتالي شرق السودان في فوضى طويلة الأمد. ويقول الخبير الأمني، إن التحالف بين أفورقي والبرهان هو تحالف هش ولا يستند على قاعدة صلبة وأول مهدداته الطبيعة المزاجية المتقلبة للرئيس الإرتيري، إضافة إلى أن الرجل متغلغل لدرجة كبيرة في مكونات شرق السودان ويكاد بعضها يدين له بالولاء أكثر مما يدين للبرهان، ويمضي الخبير الأمني معددًا المخاطر المحدقة بالشرق مذكرًا بأطماع أثيوبيا في منطقة الفشقة، وأن التقارب السوداني الإرتري هذا ربما يثير حفيظة أديس ابابا ويجعلها تتحرك لإعادة احتلال منطقة الفشقة، مشيرًا في هذا الصدد إلى تطمينات بثها وزير الخارجية المعين حديثًا على يوسف إلى أثوبيا معتذرًا عن تصريحات أدلى بها في مصر بشأن سد النهضة، ومؤكدًا للإثيوبيين أن التقارب مع أسمرا لن يكون على حساب علاقة بورتسودان بأديس أبابا. وبحسب الخبير إن مثل تلك التطمينات غير كافية في ظل الصراع المتجذر بين البلدين الذي وصل إلى حد الاحتراب.
في الأثناء يبدي شهاب الطيب موقفًا متحفظًا ومخاوف بائنة ويقول في إفادته المطولة لـ”أفق جديد” بدبلوماسية واضحة “في ظل استمرار الوضع على ما هو عليه، فإن خطر اندلاع حرب أهلية شاملة في شرق السودان يظل قائمًا مع انتشار السلاح ووجود مليشيات تعبر عن توجهات جهوية تحت غطاء بعض الدول في الإقليم” وبزيد “هذه الحرب يمكن أن تؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا وتشريد المدنيين وتدمير البنية التحتية خصوصًا أن ولايات شرق السودان الثلاث تحملت عبء استضافة أعداد كبيرة من النازحين من مناطق الصراع في الخرطوم والجزيرة وسنار وغيرها من المناطق” ويمضي محذرًا “إذا لم يتم احتواء الصراع في شرق السودان، فقد يتسع ليشمل مناطق أخرى من البلاد، مما يهدد بانهيار الدولة السودانية”. ويحدد شهاب الطيب 3 سيناريوهات محتملة الأول والمأمول طبقًا له يتمثل في الوصول إلى حل سياسي من خلال الحوار الشامل والوساطة الدولية، يرضي جميع الأطراف في شرق السودان بالتحديد أصحاب المصلحة منهم. وهذا الحل طبقًا لشهاب يجب أن يعتمد على مشاركة جميع المكونات المجتمعية في إدارة الإقليم والمشاركة على مستوى السلطة المركزية. أما السيناريو الثاني فهو استمرار الصراع إذا فشلت الجهود الرامية إلى حل سياسي، فإن الصراع قد يستمر لسنوات طويلة، مما يؤدي إلى تدهور الأوضاع في شرق السودان ويدخل الصراع لمواجهة مسلحة بين المليشيات المسلحة، والسيناريو الثالث بالنسبة لشهاب وهو مرتبط بالثاني يتمثل في تدخل دول في الإقليم أو من خارجه بشكل مباشر في الصراع في شرق السودان لحماية مصالحها، مما يزيد من تعقيد الصراع وإطالة أمده.