ذاكرة على ورق (2)
ثروت همت
“لمتين يلازمك في هواك مُر الشجن”
ذات الأغنية ترتدي وشاح الأثير لتهبط على أذني وتتكئ على جدار الماضي، طارقة أبواب خِلتُها انكفاءت على النسيان. لكن الجرح كان أقوى من الذاكرة. والنسيان ما كان إلا سراباً نخبت على شرفه كأسي الظامئ للانعتاق من ذاكرة أرهقت مضجع العمر، فانبجس الموت مصفراً ما بين الخلايا، مقيتاً، داعياً لتقيؤ الحياة. شهق الماضي على زفير مصباح أخير، خلته سيضيء ما تبقى من العمر، لكنه انطفأ لافظاً آخر نفس مع أول قاسم مشترك بيني وبين ذكريات طفحت على أنسجة الدماغ بمجرد الاستماع إلى لحن رقص القلب يوماً على إيقاعه النزيف .
***
ذات مساء عذب. تدثرنا فيه بالحب أهديتني ذات اللحن، أخبرتني عن شغفك بالاستماع للراحل عثمان حسين، كما وأخبرتني أن اللحن هو المفضل لديك، يومها لملمت ما تبقى من حطام القلب، زحفت روحي في كل اتجاهات الحقيقة الغائبة بأمر الصمت وعهود النسيان التي عاهدت نُدبي القديمة علىها في عجلة من جراحات خلتها الأخيرة كإشباع وهمي بأمل تثاءب داخل حلم، ألقيته أنت على كسر الواقع، فدميت أقدامي بشظاياه المتناثرة، يااااه. شكراً حزينًا لخطوة كانت بحجم شمسٍ صرعت ظلال قمر سجى في سمائه العمر.
“لكنني كم أنا حقـــاً بكـيت أسى فكـــلُ فجرٍ له في القلب إيلامُ
وكـل بدرٍ فظيــع في نقـــاوته وكـل شمسٍ بها مُر وإرغــــامُ
فالحـب في لسعة الحرّيف نفَّخنـي سكــراً فهبت من التخدير أنسامُ
ألا لينشـــقَّ حـيزومي برمته! ولـيرمني في نيوب البحر أعدامُ ”
(أرثور رامبو)
***
(الأغنية مُرهِقة، إيقاع متناثر في بادئ اللحن.. موسيقى مترددة، ثم لهج ينزف. يزف الذاكرة!! ذكريات حزينة تبدأ في الصعود للروح، ببطء عروس لعثم المجهول خطوتها.. فجأة يتحول الإيقاع لآخر بهيج. مفسحاً المجال للذكريات السعيدة، فتبتسم الروح.. ليتراقص الأمل شعاعاً من التفاؤل.. تندمج الذكريات السعيدة بالأخرى الحزينة فيتولد الشجن بشكله السامي.. لذا لم يكن هناك مناص من تسمية الأغنية بشجن).
كان هو تعقيبي وقتها، تعقيب ساذج. لم أكن أدرك أنه سيناريو سيكتب علي الانصهار والتوحد في تفاصيله. سيناريو بائِس سيأخذ من عمري عمراً إضافياً لا تعافي منه، الصدفة. الكلمة التي حذفتها قديماً من قاموسي الداخلي وأيدلوجيتي.. تثأر مني ومن إنكاري لها. تتلذذ بوضع المفارقات المؤلمة في طريقي!!.. لكني أصر على أن الحياة خالية من الصدف، والصدفة ما هي إلا تواطؤ قدري معين، وعلى ذات نسج النول، لم يكن لقاؤنا حينها مجرد صدفة، كان ترتيباً قدرياً قُدر له أن يكون.. كما كان فراقنا ترتيب آخر.. ترتيب فقدت لإثره دفة توازني مع ذاتي، فانكفأت روحي في داخلي كصدفة كلسها الألم فتراكم الحزن والشجن وصدأ الإحساس.
” ما حيلةُ العبدِ والأقدارُ جاريةُ علىه في كل حالٍ أيها الرائي؟
ألقاهُ في اليم مكتوفاً وقال لـهُ: إيــــاك أياك أن تبتل بالماءِ”!
(الحلاج)