الحياة في كنف المخاطر
لا يمكن التنبؤ بمواقيت تلك القذائف
“في الأسبوع الماضي تعرضت أحياء العباسية شرق وأبوعنجة وأبو كدوك لقصف متكرر أصيب على إثره امرأة وطفل إضافة إلى وفاة صاحب فرن بمنطقة بانت وإصابة ابنه في منطقة بانت”
“لم يتوقف التدوين والطلقات الطائشة منذ بداية الحرب وبالرغم من ذلك يتواجد بالحي الكثير من السكان الذين تجمعهم قلة الحيلة وضغط الظروف”
أم درمان – آيات مبارك
“ربنا لو أراد لنا الموت فسوف نموت في أي مكان؛ لكنني لن أبارح بيتنا الكبير في حي (الهاشماب)”، هكذا قالت لبنى النذير (وهو اسم مستعار لدواعٍ أمنية)، لـ”أفق جديد”، وهي تحكي قصة خروجها مع أسرتها.
وأضافت: “بعد أن أيقنت أن الحياة مستحيلة في أم درمان توجهت صوب ولاية الجزيرة وبعد دخول قوات الدعم السريع إلي العاصمة مدني توجهت نحو مدينة سنار، وبعد ذلك إلى مدينة القضارف شرقي البلاد؛ لكن ظهور الحُميات والأوبئة والاكتظاظ السكاني دفعني للعودة إلى بيتي القديم، تجنباً لأسعار الإيجار الفلكية”.
وتابعت: “بعد عدد من الاتصالات مع معارفنا للبحث عن طريق يوصلنا إلى المناطق الآمنة التي لم تصلها الحرب تعذر علينا ذلك بسبب غلاء الأسعار، كما حالت أوضاعي المادية دون نزوحي إلى الولاية الشمالية أو نهر النيل”.
وتقول لبنى إنّ الوضع الآن في أم درمان يختلف عن لحظة نزوحها، فهناك بعض الاستقرار، “رغم أننا نسمع أصوات الرصاص والطيران والقصف من حين إلى آخر”.
وإثر اتساع دائرة الحرب خارج ولاية الخرطوم، واكتظاظ مدن مثل بورتسودان والقضارف وصعوبة الحصول على مأوى فيها، اضطر كثير من نازحي جنوب أم درمان القديمة العودة مرة أخرى رفقة نازحين جدد.
واختار هؤلاء منح أنفسهم فرصة التعايش والحياة وسط زخات الرصاص والألم، يصحبون معهم قلة الحيلة. أغلب هؤلاء عادوا إلى أحياء الموردة وحي الضباط وما جاورها، بعد أنّ تنامت إلى مسامعهم أنباء الهدوء النسبي لتلك البقاع مقارنة بالأشهر الأولى للحرب.
وتتحدث تقارير لجان مقاومة العباسية (نشطاء)، عن بوادر لانتعاش الحياة في منطقة أم درمان القديمة، حيث شهدت الفترة الأخيرة افتتاح عدد من المحال التجارية وعودة بعض المخابز للعمل بشارع الأربعين.
الأمر يُعتبر مؤشرًا إيجابيًا لتحسن الأحوال المعيشية واستعادة النشاط التجاري تدريجيًا، ذلك لأول مرة منذ أكثر من عام ونصف، وتأتي هذه العودة للنشاط التجاري في وقت يحتاج فيه سكان المنطقة إلى خدمات أساسية، ما يساهم في تخفيف معاناتهم اليومية.
أحلام العودة
القلق يعصف بهم على منازلهم؛ يأتون يومًا بعد يوم من أجل الاطمئنان عليها تارة ومن أجل جلب أمتعتهم وحاجياتهم تارة أخرى، وفيما لاتزال بعض المنازل خالية من السكان وتكثر السرقة ليلًا ونهارًا الشيء الذي اضطر البعض إلى استضافة نازحين جدد من أحياء صالحة وأم بدة في منازلهم حفاظًا عليها.
ويبدي المواطن حسن الريح الغالي (حي أبو كدوك)، تفاؤله بعودة الحياة إلى شارع الأربعين، خصوصا (سوق لفة بانت) و(محطة عابدين) والتي تعتبر من أكبر المراكز التجارية هناك، وأوضح أن غلاء الأسعار وأصوات القصف المتواصل لم تحد من أحلام العودة، خصوصًا بالنسبة للسكان الذين نزحوا تجاه منطقة الثورة وما جاورها.
الجوع كافر
لم يبارح وقاص نورالدين (حي الضباط) منذ بداية الحرب وكان شاهدا على حصار الإذاعة من قبل الجيش السوداني وإغلاق شارع العرضة من قبل قوات “الدعم السريع”
يقول وقاص لـ”أفق جديد”، “اضطررنا وقتها إلى أكل (شجر المسكيت) و(شراب الويكة بالماء المالح). ويسترسل: “البعض منا يعيش حالة نفسية متدنية بسبب استمرار الحرب وما خلفته من خسائر في الأرواح والممتلكات والبعض الآخر اختفى ولايزال رهن الاعتقال، فيما مات كثيرون نتاج سوء التغذية”.
وأضاف: “قمنا بدفن الكثير من سكان الحي في ميدان حي (بانت) عندما كان الوصول إلى مقابر (حمد النيل) مستحيلًا، وأيضا قمنا بدفن بعض الجثث أمام المنازل، فيما أصبحت بعض الأماكن محاطة بالمدافن مثل (مسجد الذاكرين) وتلك الربوة التي تقع في حي (العباسية شرق)”.
وبحسب وقاص فقد تعاقبت عليهم الكثير من المناسبات التي كانوا يحتفلون بها سنويًا لكنها وجدت الشوارع خالية هذه المرة؛ مثل زفة المولد، وحولية الشيخ (حامد أب عصا)، وحولية السادة الأدارسة، “لكن ما يزيدنا قوة هو تكاتف سكان الحي وأعداد المصلين في مسجد الذاكرين ومسجد أبو كدوك لاسيما صلاة الجمعة التي يحرص الشباب على تصويرها ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي”.
يقول صديقه عمر حسين، “كنا في الأيام الأولى نقوم بحراسة الحي وعندما تطول أمسيات الشوق في تلك الشوارع الخالية نذهب إلى أماكن تجمعاتنا لالتقاط (السيلفي) من أجل ترغيب أصحابي في الثورات ومن مضى قسرا نحو الولايات بالعودة، (يا شباب قهوة فرح فتحت)”.
وأضاف، “نجتمع عند فرح في سوق الموردة صباحًا ولكن عند عودتنا إلى الحي نتخذ طريقًا آخر خلاف الذي كان نمضي به قبل الحرب وقتها كنا نشرب عصير الليمون البارد (ليمون الضيّعوك)، فقد مات العم عبد الرحمن أثناء الحرب ولم تسلم أيضا (قهوة فرح) بسوق الموردة من خطر التدوين العشوائي”.
وتابع، “عادت معظم مظاهر الحياة إلى طبيعتها إلا أن خطر القذائف لايزال يحدق بتلك المنطقة من اتجاه جزيرة توتي والمقرن أو من غرب أم درمان وجنوبها عند حدوث اشتباكات في حارات أم بدة جنوب أو منطقة صالحة”.
وزاد: “لا يمكن التنبؤ بمواقيت تلك القذائف وفي الأسبوع الماضي تعرضت أحياء العباسية شرق وأبوعنجة وأبو كدوك لقصف متكرر أصيب على إثره امرأة وطفل إضافة إلى وفاة صاحب فرن بمنطقة بانت وإصابة ابنه في منطقة بانت، ولم يتوقف التدوين والطلقات الطائشة منذ بداية الحرب وبالرغم من ذلك يتواجد بالحي الكثير من السكان الذين تجمعهم قلة الحيلة وضغط الظروف”.
العودة التدريجية
يحدث هذا بعد أن استعاد الجيش السوداني السيطرة على مقر الإذاعة والتلفزيون في أول مارس الماضي وصولاً إلى حي الدوحة في يوليو الماضي ونظافة الأحياء ودفن ونقل الجثث من مناطق الشهداء ومستشفى التيجاني الماحي وما جاورها.
بالمقابل بذلت العديد من المبادرات المجتمعية جهودا كبيرة لتشغيل المياه والكهرباء عبر مساهمات الخيرين من أبناء تلك الأحياء منذ أكثر من خمسة أشهر.
نتيجة ذلك عادت المياه عقب غيابها منذ الأسبوع الثالث من اندلاع الحرب بعد تعرض محطة مياه المقرن التي تمد جميع أحياء جنوب أم درمان بالمياه إلى انقطاع متكرر في التيار الكهربائي ومن ثم توقف إمدادها لأكثر من عام.
فيما تعمل أغلب المراكز الصحية مثل مركز صحي (الضو حجوج) ومركز صحي بانت بالإضافة إلى مركز حي الموردة، لكن بعد اكتمال الصيانة في قطاع الكهرباء تعرضت محولات كهربائية لأضرار جسيمة في حي الموردة أم درمان، ولم تكن تلك محاولة التخريب الأولى في هذا الحي فقد قامت قوات الدعم السريع في أغسطس الماضي بقصف مستشفى الولادة بأم درمان (الدايات)، وتسبب في خسائر المباني، عقب افتتاحه بيوم واحد.
لم تكتمل الصورة
وتفسيرا لظاهرة عودة سكان أم درمان القديمة تقول الباحثة الاجتماعية، ندى سيد المعتصم، إن العامل الاقتصادي يُعد سببا أساسيا في عودة النازحين بسبب عدم توفر مصدر دخل ثابت وسط صعوبة المعيشة ودفع الإيجارات في آن واحد، لاسيما وأن الحرب قد قاربت على إكمال العامين دون أمل في انتهائها.
وأشارت ندى في حديثها لـ”أفق جديد”، إلى أن معظم الذين عادوا ليس في مقدورهم الحياة خارج منازلهم وليس لديهم من حل سوى الحياة وسط التدوين العشوائي، لذلك كان بعض الأمان كفيلا بإمكانية عودتهم.
وأوضحت أن “الارتباط العاطفي بالمكان قد يكون سببا مباشرا للعودة خصوصا بالنسبة لكبار السن ما يؤكد ذلك أن بعض السكان رفضوا مبارحة منازلهم منذ بداية الحرب هذا ما يعرض الكل لمخاطر عديدة، دون الوصول إلى تقييم حقيقي للأوضاع السائدة”.