في ذكراه..
ميلاد العم نجيب محفوظ..
11/12/1911
علاقتي به، ضبابية، كأنها بلا بدء، مثل أن تسأل متى بدأت علاقتك بأختك محاسن؟ أو أخيك عثمان؟ علاقة غائمة لأنها ضاربة في قدم طفولتي، أتذكر متى وأين عرفت أمك؟ إخوتك؟ كأنهم منذ الأزل كانوا معك.
هكذا كانت علاقتي بنجيب محفوظ عبدالعزيز، صاحب الشامة العجيبة والوجه الوقور، الصبور، (حكى إنه ابن مصر، أهل زرع وصبر في حقولهم، منذ آلاف السنين، حيث كل ثمار له أوان لا يستعجل، بل يثمر عند أوانه)، فيلزمك فضيلة الصبر، عكس الصناعة، ذات العجلة المتسارعة كل آن.
كل ما أذكره، أن لإخوتي مكتبة كبيرة، خشبية، خضراء، ذات أدراج، كنت أتشابى كي أنزل كتابا أو مجلة، كنت أحب عطر كتبه، أقلب الكتاب بعجلة (علمني أخي كيف أتصفح الكتاب دون أن أنفش اطرافه)، كما علمني تقديس الكتاب، ومعاملته ككائن حي.
في بدء مراهقتي أحببت رسومات جمال قطب لبطلات حكاياته، ممشوقات، وملفوفات بثياب ملونة صيقة ونحور وسيعة، وأسارير وجوه ذات غنج، وإغراء (بعد تجاري)، وفي نواحي الغلاف دراويش وباعة، وبخور.
أيضا تبدو طرقات القاهرة المزدحمة التي تضيق أكثر في الأعلى عند الشناشيل، تكاد تلتصق بالمبنى المقابل، ومن بعيد في قلب الضباب تبدو مئذنة، تشد أواصر الغيب بين المدينة وقبة السماء (الحارة تهاب اثنين، الفتوات والدروايش)، قوة العضلات وقوى الغيب (يضع سرو في أضعف خلقو).
في الثانوي العام قرأت أغلب كتبه، كانت أكبر من عمري، لكن فراغ القرية العريض، دفعني لهذه المغامرة المحفوفة بالخطورة (مثلا ثرثرة فوق النيل)، أرهبت مراهقتي (أصلا هي متوترة وقلقة، تبحث عن أمان)، كان حوار العوامة وجودي، عبثي، زاد طين عبثيتي بللا، كنت مثل أبي حامد الغزالي، أبحث عن يقين مكتسب، وليس موروث، ضربة لازب على عقلي وقلبي، أي (المنقذ من الضلال)، معضلة الغزالي، وقد تسورته في سوق بغداد الفكري، بضاعه من كل جانب، كلها تدعي وصلا بليلى (وليلى لا تقر لهم بذاك).
أظن حكاية (بداية ونهاية) ومنذ بدايتها، كانت شيقة، ودخول الضابط المدرسة الثانوية، جعلت مسرح الحكاية قريب للقلب، رغم حزن البداية، لكن هناك يتم مشترك بيني وبين (حسن وحسين)، بطلا الحكاية.
كما أحببت تناقض حميدة، (أهي مصر، أو أي وطن وبنوه)، بين إغراء الاستعمار وواجبات المقاومة الوطنية.
وأسفت لزهرة في ميرامار، القروية العفوية، الجميلة، بين أساطين الاقطاع والأيديولوجيا، (ذات الأمر، في “النداهة” ويوسف إدريس أيضا، لكن بأسلوب آخر)، كنت أقرأ صفحات وأتعجب من (قلة أدب نجيب محفوظ)، أنا ابن قرية صوفية، (لا غرفة نوم فيها ولو عريس وعروس)، ثارت خواطري: أليس له بنات؟ ولم أدر حينها، أن الأدب مرآة لحياة الإنسان، سيرة وسريرة، عند كل الشعوب، يشمس الخفي ويستله لنور الفكر والنقد، شجاعة ذهن، وحب لدفق مطلق حياة، يحارب العادات وليس هناك سلوك بمفلت من نقده.
سحرتني حكاية (ابن فطومة)، جدا، جدا، جاء في وقته، كنت أسأل نفسي، (لو لم أولد في مجتمع مسلم، كيف كنت سأرى الكعبة؟ والصلاة، ورمي الأحجار؟) كأن هذه الملحمة القصيرة، كتبت من أجلي، ودفق الخواطر التي تثار في دخيلتي، تنثال لا شعوريا إلى مسرح ذهني، فكانت ذاتها دارت في ذهن نجيب، ولكن من خلف قناع شخوصه، وكفاه الله شر التطرف، تكفير التفكير.
للذكريات والحب، بقية.