ما تشيلي هم… الحوت يواسي ليلات التفاؤل الحذِر

كلمات: إبراهيم محمد إبراهيم
قراءة: عبدالله برير
التركيبة اللحنية للأغنية في بواكيرها تحاول جاهدة بشق الأنفس تذويب الشجن البائن في ثنايا النص خلسة بإلباسه قالب التحدي والتفاؤل، بيد أن الحزن والخوف يبرزان خفية كلما حاولت الموسيقى أن تستأنف رحلتها الزائفة المشوبة بالهواجس تجاه هالات الفرح التراجيدية، ليضفي هذا المزيج على الأغنية رونق الاطمئنان والظنون في آن .
سرعان ما تهدأ العواصف التحذيرية بما يحاكي الوجوم المصبوغ بالأنين والشهيق بين الفينة والأخرى، زفرات حرى تفسح المجال للصوت البشري ليدلي بدلوه في كنه المأساة الماثلة قبالة سامعيه، ليطل صوت (الحوت) مخدوعًا بهدهدات اللحن المتراصة والمتأرجحة بين اليقين والشك، تعتري صوته نبرة الشجن وهو ينطق “من الظروف ما تشيلي هم” (من المنطقة الصوتية الدنيا) القرار (مدعيا الثبات إلا من شجن يزاوره ذات الحب وذات اللاحب، داعيًا المحبوبة إلى الترجل من على شرفة الهموم للهبوط إلى الغد الوارف حيث الأماني العذاب، في عتاب لطيف “بكرة الزمن ليك ببتسم”، متنازعًا بين الترقب والخوف من دياجر الزمن الذي يقف عند حرف النون فيه بغنة محببة ملؤها العتاب، محذرًا الزمن من مغبة العبث بمن يحب، استعار الشاعر ابتسامة الزمن المنظرة وفردها شراعًا معبرًا عن بيارق الأمل الوسيم الموعود فاردًا أحضانه للمحبوبة .
يواصل الجان بث الطمأنينة مذكرًا حبيبته بأنها “الطالة في صبح العشم”، استخدم الشاعر لفظ الطالة ﻹيصال إحساس الليل البهيم المسيطر الذي انهزم أمام إطلالة المحبوبة صاحبة العشم، ليعود الحوت مرددًا سيمفونية الخلود البرزخية “اتصبري ما تشيلي هم”، ينطقها مأخوذًا بقوة الشكيمة “ما تشيلي هم”، وهنا يكسو صوته عنفوان ينادي بضرورة تشبث الحبيبة بأهداب الأمل مهما كانت الحيثيات .
تستمر الملحمة اللحنية ثنائية الأبعاد ويواصل الحوت بث الضمانات في عيني الحبيبة “ما تشيلي همك في الدموع بحر الحزن ما ليهو قيف”، في تحذير مشدد على عدم تسليم النفس للأحزان والدموع لجهة أن تيار الأسى العتيق – حال هبت رياحه – فهو لا محالة جارف كل الذكريات الطيبة، وربما يحيل الحاضر إلى ما يشبه الكارثة، طالبًا منها عوضًا عن ذلك أن تأتي والفرح والكل بانتظارها “راجنك الفرح الجميل”.. فرحها الرائع الذي تجمل بمجيئها والجميع في حالة “شوق انتظار عندك نقيف”. اختزال ساعات العالم كلها لتتوقف على شرف مجيء الحبيبة، ليمضي الجان وصحبه في التنبؤ بالمستقبل وضرب الكف والدخول إلى كهوف العرافات وقارئات الحظ – هذا بالطبع إن جاءت المحبوبة مبرأة من الخوف والهم هادمي اللذات .
تجليات النص تتراءى والجان يناغم محبوبته “يا غالية يا وعدا سمح” ليتخذ أسلوب المغازلة ديدنًا جديدًا لإقناعها، ويا لجمال الوعد حين يوصم بالسماحة، ليعود مذكرًا إياها بسلبيات الأحاسيس غير المرغوب فيها “من فرقتك دفق النزيف”، ليخبرها أن المسافة قد تتسع بينهما وأن الهوة قد توقظ كوامن النزيف، في الوقت الذي تتضعضع فيه ليلات الحزن بالحبيبة في مفارقة ربما قصدها الشاعر ليضع الحبيبة في ورطة فوارق وجودها وعدمه، تحديدًا وجودها المتفائل – ليختم الكوبليه بالنصيحة الأبدية “اتصبري ما تشيلي هم” .
تهدأ لواعج الموسيقى قليلًا لتدخل موجة غير مسبوقة من الأسى المغلف بالتفاؤل، لتلعب الكمنجة دور الخيانة في إظهار نبرة الخوف مجددًا، ليباغت الحوت الجميع كانتحاري وهب صوته للتفجر وسط كومة من الشجن والحزن المبنعثين من الأوركسترا الثكلى النائحة، يظهر الجان أنبل أنماط الجسارة ويغمس نفسه في بركة الموت “ما تشيلي هم عاشقك بكى”، مقدمًا للمحبوبة عصير دموعه على طبق من تضحية “دوزن وتر حبك غنا”، ليتكفل فيما يعني بضبط النوتة الموسيقية ﻷحب وصولًا لدرجة الدوزنة وضبط الإيقاع بعد غارات الأسى التي اجتاحت سماواتها ليعيد وزن المعادلة دون انتقاص المحبوبة حقها الفطري.. “شوقك شده شوقنا الشديد”، ما يعني أن شوق الحبيب رغم شدته أصيب بالاندهاش أمام فيض المحبوبة المفعم بالرغبة اللحوحة “نضح الحروف بيك لونها”.. لوحة سريالية مرسومة بالألق موقعة بالشوق الجميل .
يشرئب عنق الموسيقى وتدب العافية في أوصال النص مع بوادر انفراج أزمة الهم وتحورها إلى تسطير ملحمة تحكي عظمة المحبوبة، “يا غالية يا شيتا كتر”، وصولًا إلى الولع بالزهور والورود “يا نرجسة ويا سوسنة”، مانحًا إياها أجمل لقبين كلقب السير الفخم الذي تهبه ملكة بريطانيا للعظماء.. “يا قبلي في الضحوي اتصبري ما تشيلي هم” .
تتشجع الجمل اللحنية وتكتسي بالجسارة بعد أصائص الورود التي تفتقت آنفًا، لتبدأ الموسيقى حملة الدفاع عن الفرح مصحوبة بأناقة النص “ما تشيلي هم نورك سطع”، سطوع نور المحبوبة للحيلولة دون الاكتراث للهم.. “يا الراجعة من غربة وسفر”، ربما كان اغترابًا وربما سفر الروح، لكن على أية حال فالمسافر العائد مصاب بشيزوفرينيا البسمة والدموع.. خليط الفرح الباكي .
عودة الحبيبة المادية أو المعنوية والتغيرات التي تطرأ على الكون حيال ذلك تربطهما علاقة وطيدة “عمر السنين بيك ازدهر”، حيث امتد التأثير وطالت أياديه البنفسجية سحاب الينوات التي ازدادت نضارًا بعودتها وتحول العالم إلى لوحة مفعمة بالحدائق الغناء “فرحتي بالجية الورود”، التي ازدات جمالًا على جمالها، فيما رقص الفل والزهر على إيقاع السرور “اتراقص الفل والزهر”، فيما يختم الفتى النحيل رحلة مخاوفه وتطميناته بالوصايا العشر “إن شاء الله ما تشوفي الندم” .
ما تشيلي هم
من الظروف ما تشيلي هم
بكره الزمن ليك بيتسم
يا الطالة من صبح العشم
أتصبري ما تشيلي هم
ما تشيلي همك في الدموع
بحر الحزن ما ليهو قيف
راجينك الفرح الجميل
شوق أنتطار عندك نقيف
يا غالية يا وعداً سمح
من فرقتك دفق النزيف
ليل الحزن بيكي أنهزم
أتصبري ما تشيلي هم
ما تشيلي هم عاشق بكى
دوزن وتر حبك غنا
شوقك شذا شوقنا الشديد
نضح الحروف بيك لونا
يا غالية يا شيتاً كتر يا نرجسا يا سوسنا
يا قبلي في الضحوي الرزم
أتصبري ما تشيلي هم
ما تشيلي هم نورك سطع
يا الراجعة من غربة وسفر
الشوق البعود بسمة ودموع
عمر السنين بيكي أزدهر
فرحت بالجية الورود
أتراقص الفل والزهر
إن شاء الله ما تشوفي الندم
اتصبري ما تشيلي هم