المسرح من تحت الركام… إلى أفق الحياة
حوار خاص مع د. علي محمد سعيد – مدير مهرجان المسرح الحر، الدورة التاسعة (دورة الفنان أحمد رضا دهيب)
- الحرب سرقت من المسرح خشبته، لكنها لم تنزع روحه
- المسرح هو الوسيط الأمثل لبناء الذاكرة الجمعية… لا يصنع أرشيفًا فقط، بل يخلق وعيًا يُقاوم النسيان
- حين نرفع اسم دهيب في هذه الدورة، فنحن نكرم المعنى الذي عاش من أجله
- الإبداع لا يُولد تحت الوصاية، والمهرجان لا يريد أن يُهندس الإبداع، بل أن يُتيح له أن يُعبّر عن نفسه بكل صدق
..في ظل رماد الحرب، وفي قلب العتمة التي خيمت على الحياة العامة والثقافية في السودان، ينبثق مهرجان المسرح الحر كفعل مقاومة أكثر منه مجرد مناسبة فنية. الدورة التاسعة، التي تحمل اسم الفنان الراحل أحمد رضا دهيب، لا تأتي لتحتفل، بل لتعلن أن المسرح لا يزال حيًا، وأن الفن قادر على الانبعاث من بين الأنقاض.
إنه حوار عن دورة استثنائية بكل المقاييس، تقام بلا دعم مركزي، وتبنى على أكتاف الإرادة الجماعية، وتعلن من جديد أن الثقافة ليست ترفًا، بل ضرورة وجود. شهدت الأسابيع الماضية جلسة نقاش تفاكرية حول انطلاق فعاليات الدورة التاسعة من مهرجان المسرح الحر الذي ينظمه نادي المسرح الحر السوداني، ومنظمة التقدم للتنمية الاجتماعية عبر الفنون .
تميز حفل التدشين الرئيسي في القاهرة بحضور نوعي واستضافة كريمة من اتحاد تجمع الفنانين السودانيين بمصر، وكانت دعوة صادقة إلى حوار مفتوح بين المشتغلين بالمسرح في الشتات والداخل. حظي الحدث بتفاعل لافت من جمهور متنوع من المسرحيين المقيمين في القاهرة.
في هذا الحوار العميق مع الدكتور علي محمد سعيد، المدير العام للمهرجان، نغوص في الأسئلة الكبرى التي يطرحها المسرح في زمن الخراب: عن جدوى الفن، عن دور المسرح في بناء الوعي والذاكرة، وعن التحديات الهائلة التي تواجه الإبداع حين يصبح البقاء نفسه عملًا بطوليًا. وعن الاستعدادات لانطلاق فعاليات المهرجان في يونيو المقبل.
وإلى حيثيات الحوار
القاهرة: محمد إسماعيل
- ما الذي يُميز هذه الدورة عن سابقاتها؟
ما يميز هذه الدورة ليس فقط أنها تُقام في ظل حرب، بل لأنها تُقام ضدها!. المهرجان هنا لا يأتي كفعل احتفالي، بل كفعل مقاومة رمزية. في كل دورة سابقة، كان المسرح يعرض الواقع، أما اليوم، فهو يرفضه. نحن لا نُقيم مهرجانًا، بل نُقيم دليلًا على أن الفن لا يُقتل، حتى عندما تُقصف المدن.
ما يميز هذه الدورة – يا عزيزي – ليس شكلها فقط، بل يتجلى ذلك في روحها. هي دورة تنهض من تحت الركام حرفيًا، جاءت في ظرف استثنائي تمر به البلاد، حيث توقفت الحياة العامة والمسرحية تقريبًا، وتبعثرت الفرق، وتهجّر الفنانون. وسط هذا المشهد، يأتي المسرح الحر ليؤكد أن المسرح لم يمت، بل هو قادر على أن يُبعث من أنقاضه. هذه الدورة ليست امتدادًا تقليديًا لما سبق، بل هي محاولة لإعادة بناء العلاقة بين المسرح والناس، ولتجديد وظيفة المسرح بوصفه فاعلًا في الوعي الجمعي، لا مجرد منصة للعروض.
- بصفتكم مديرًا عامًا للمهرجان، ما الذي تسعون إليه؟ وما التحديات التي تواجهونها؟
نطمح، معي فريق العمل بالضرورة، إلى أن تكون هذه الدورة نقطة انعطاف في المشهد المسرحي السوداني، لا على مستوى الشكل فقط، بل على مستوى الرؤية. نسعى أن يكون المهرجان منصة للحوار، لتأمل المرحلة، وتفكيك الأسئلة الكبرى التي طرحتها الحرب. التحديات كثيرة، منها اللوجستي بالطبع، لكن الأصعب هو التحدي المعنوي: كيف نُقنع الفنان بأنه لا يزال يحمل رسالة؟ كيف نعيد الجمهور إلى حضن المسرح؟ كيف نجعل الفعل الثقافي نفسه مقاومًا للانكسار؟ هذه أسئلة نُحاول أن نجيب عنها من خلال هذا الجهد الجماعي.
- هل يُلزم المهرجان العروض المسرحية المتقدمة بنصوص معينة؟
لا فلسفتنا تقوم على أن الحرية هي أصل المسرح. لا نفرض نصوصًا أو رؤى، بل نخلق بيئة تحتفي بالتعدد والتجريب. ما نريده هو أن تكون الأعمال صادقة، نابعة من واقعها، قادرة على فتح أسئلة جديدة، وعلى مخاطبة الوجدان الشعبي. الإبداع لا يُولد تحت الوصاية، والمهرجان لا يريد أن يُهندس الإبداع، بل أن يُتيح له أن يُعبّر عن نفسه بكل صدق.
- كيف أثّرت الحرب على الحياة المسرحية في السودان؟
الحرب سرقت من المسرح خشبته، لكنها لم تنزع روحه. الحرب، paradoxically، قد تكون لحظة ولادة للمسرح الحقيقي، ذاك الذي لا يهادن، ولا يتزين، بل يقف عاريًا أمام العراء، ويصرخ بما لا يُقال. الحياة المسرحية ما بعد الحرب لم تنتهِ، بل دخلت مرحلة أكثر حدة في مساءلة المعنى… الحرب بطبيعتها تضرب في العمق. لم تؤثر فقط على البنية التحتية للمسرح، بل على روحه. كثير من المسارح أُغلقت أو دُمّرت، والفرق تفككت، والفنانون نزحوا أو هاجروا. لكن الأعمق من ذلك هو ما أصاب الوعي الجماعي من تفكك. المسرح هو نبض المجتمع، وحين ينكسر المجتمع، ينكسر المسرح معه. لكنه أيضًا، بطبيعته الرمزية، قادر على أن يكون جزءًا من العلاج، من إعادة ربط ما انقطع، ومن استعادة الحكاية الجمعية.
* شعاركم هذا العام “المسرح من أجل الحياة… المسرح ينهض من الركام ويبعث الأمل”، ما دلالات هذا الشعار؟
هو شعار نابع من صميم المرحلة. لا نريد أن نجمّل الواقع أو نهرب منه، بل أن نُحوله إلى مادة للتأمل والعمل. الشعار هو إعلان موقف: بأن المسرح ليس ترفًا في هذا الوقت، بل ضرورة. وبأن بإمكان الفن أن يكون أداة لاستعادة الحياة، وإعادة رسم الأمل، حين تعجز السياسة والاقتصاد عن ذلك.
- ذكرت أن هذه الدورة ستفتتح بورقة فكرية موحدة، وبوثيقة بعنوان “مانيفستو دراميي السودان بعد الحرب”، هل لنا بتفاصيل أكثر؟
الورقة الفكرية هي بمثابة خطاب افتتاحي جماعي، يُعيد طرح سؤال المسرح في علاقته بالحياة وبالتنمية وبالسلام المستدام، ويقترح أدوارًا جديدة للمسرح في ظل إعادة البناء.
أما “المانيفستو”، فهو وثيقة تأسيسية مفتوحة، تهدف لتجميع صوت المسرحيين حول رؤية مشتركة لمرحلة ما بعد الحرب. لا نريد أن نُجامل، بل أن نؤسس لمستقبل، يبدأ من النقد الصادق للذات، وللتجربة.
* وصفتَ هذه الدورة بأنها “استثنائية بكل المقاييس”… لماذا؟
لأنها ليست فقط مهرجانًا مسرحيًا، بل ممارسة مقاومة للغياب. هي دورة من دون دعم مركزي، من دون بنية مؤسسية كاملة، لكنها تمضي بإرادة جماعية عظيمة. الفرق المشاركة ستنتج عروضها بإمكانياتها الذاتية. كل شيء يتم عبر التضامن، والمبادرة الشخصية، والجهود التطوعية. هذا هو الاستثناء الحقيقي.
- ماذا عن مشروع المسرح الحر الذي تحدثتم عنه؟
المسرح الحر هو حلم قديم مستمر ومتجدد ويسير بخطى بطيئة ولكنها واثقة، وهو في هذه الدورة يأخذ ملامح واضحة. نريده مسرحًا لا مركزيًا، لا يهيمن عليه خطاب رسمي أو بيروقراطي، مسرحًا يخرج من قاعات التوجيه المدرسي والسياسي إلى الشارع، إلى الناس، ويكون معبرًا عن قضاياهم وأسئلتهم. مشروع المسرح الحر يعني أن نعيد للدراما مكانتها في تشكيل الرأي العام، وتغذية الخيال الجمعي.
- هل ترون أن المسرح يمكن أن يُسهم في بناء الذاكرة الجماعية بعد الحرب؟
بالتأكيد، المسرح هو الوسيط الأمثل لبناء الذاكرة الجمعية. فهو لا يوثّق الأحداث فقط، بل يُعيد تأويلها، ويطرحها للحوار. في ظل الحروب، تطمس كثير من القصص، والمسرح يعيد إحياءّها على الخشبة. إنه لا يصنع مجرد أرشيف، بل يخلق وعيًا جماعيًا يُقاوم النسيان، ويمنح الحكاية وجهًا إنسانيًا.
- أشرت إلى أن هذه الدورة تُقام بطابع لا مركزي، ما معنى ذلك عمليًا؟
نقصد باللا مركزية ألا يُحتكر المهرجان في مدينة واحدة، أو أن تُصنع قراراته من مركز إداري بعيد. بل أن تُتاح للمدن المختلفة أن تُنتج وتُقرر وتُشارك في البرمجة. هو توزيع للسلطة الثقافية، لا فقط توزيع للعروض. وهو أيضًا اعتراف بأن الإبداع لا يُولد فقط في العاصمة، بل في كل بقعة فيها حياة.
* المهرجان يصاحبه ملتقى فكري بعنوان “السياسات الثقافية في مفترق الطرق”… ما محاوره؟
الملتقى يُناقش سؤال الثقافة في مرحلة التحول الوطني. كيف نُعيد تنظيم المجال الثقافي؟ ما دور الفنان في السياسة، وفي المجتمع؟ ما حدود التفاعل بين الدولة والمبدع؟ وكيف سيسهم في إعادة الإعمار الوطني الثقافي ..هي أسئلة ضرورية إذا أردنا لمشروع إعادة البناء أن لا يكون ماديًا فقط، بل روحيًا وفكريًا كذلك.
- كيف دُعِمَت هذه الدورة من ناحية التمويل؟
رؤيتنا قائمة على التضامن بين الفنانين، وعلى الدعم الشعبي، وبعض الشراكات مع جهات مهتمة بالثقافة. لكن الأهم أن ما تم إنجازه، يُؤكد أن الإرادة الجماعية قادرة على تعويض غياب المؤسسات، وأن الفعل الثقافي المستقل ليس فقط ممكنًا، بل ضروريًا الآن أكثر من أي وقت مضى.
* وأخيرًا، خُصصت هذه الدورة بقرار رسمي من الإدارة العليا لتحمل اسم الراحل أحمد رضا دهيب، المنسق العام للمهرجان، الذي رحل بصورة مفاجئة. كيف تقرأون هذه الخسارة في سياق ما يحمله المهرجان من قيم ورؤى؟
الراحل أحمد رضا دهيب لم يكن مجرد منسق للمهرجان، بل كان روحه السرية ونبضه الخفي. رحيله لم يكن عاديًا، بل تجسيدًا مأساويًا لمعاناة الفنان السوداني في زمن الحرب. مات لأنه لم يجد الدواءً والرعاية الصحية، ببساطة. لكنه لم يترك ساحة الفعل، لم يهرب من الألم، بل ظل صامدًا في قلب الخراب، يعمل، ويكتب، وينسق، ويوزع الأمل كما يُوزّع الضوء في عتمة المسرح.
دهيب لم يكن فنانًا فقط، بل مقاومًا شجاعًا، ظل وفيًا لقضيته حتى الرمق الأخير. ومن هنا، فإن تخصيص هذه الدورة لروحه لا يأتي كتأبين فقط، بل كعهد. هو لم يمت بعيدًا عن المشهد، بل صار جزءًا من تركيبته الرمزية. المهرجان في جوهره وفاء لذكرى أولئك الذين لم يغادروا مواقعهم رغم هشاشة الحياة.
حين نرفع اسمه في هذه الدورة، فنحن نكرم المعنى الذي عاش من أجله: أن الفن موقف، وأن المسرح ليس ترفًا، بل طريق نجاة، وأن مقاومة الدمار لا تكون فقط بالسلاح، بل بالكلمة، بالصورة، بالفعل الثقافي. دهيب هو وجه المهرجان الحي، حتى بعد رحيله. وبعبارات أكثر تكثيفًا: نريد القول إن دهيب كفنان لم يمت، بل تحول إلى شظايا نور تضيء دروب من بقي.
مهرجان المسرح الحر السوداني هو مهرجان سنوي يعقد في السودان ويضم مجموعة متنوعة من العروض المسرحية، والفعاليات الثقافية، والورش التدريبية. هذا المهرجان له مكانة مهمة في المشهد الثقافي السوداني، ويعتبر منصة مهمة للمواهب المسرحية المحلية والدولية.