رؤية للعمل السياسي والمدني في زمن الحرب
تأملات في الحالة السودانية
حسام أبو الفتح
في خضم النزاعات المسلحة، تصبح الأوطان رهينة للفوضى والانقسام، ويتراجع صوت العقل أمام دوي المدافع، ولست في حاجة للتدليل على ذلك، ففصول التاريخ السوداني الطويلة شاهدة على ذلك، حيث كان الصراع السياسي والمجتمعي هو حكاية شعبي التي تتناقلها الأجيال جيلاً تلو الجيل، هذه الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع أزاحت الستار عن واقع أشد قسوة مما كان يتخيله أي مراقب، فالحرب التي اشتعلت بين حلفاء انقلاب 25 أكتوبر كصراعٍ سلطوي، لكنها تحولت إلى زلزال اجتماعي وسياسي يمزق البلاد ويعيد تشكيل مصيرها بطريقة غير مسبوقة.
في ظل هذا المشهد الكارثي، يبدو الحديث عن العمل السياسي والمدني كمحاولة للسباحة عكس التيار، لكن ربما تكون هذه اللحظة تحديداً هي تلك التي يحتاج فيها السودان إلى رؤية حول العمل السياسي والمدني في زمن الحرب أكثر من أي وقت مضى. فالحروب – مهما كانت مدمرة – ليست نهاية الطريق؛ بل يمكن أن تكون نقطة انطلاق نحو إعادة البناء إذا ما استطعنا النظر إلى ممكنات الآن وفرص البناء الجديد واستثمار طاقات المجتمع وإرادته ورغبته الدائمة في المضي نحو مستقبل أفضل.
السودان: أرض المأساة والحلم المؤجل
في البداية، لفهم أهمية العمل السياسي والمدني اليوم، علينا أن نستوعب عمق الجرح السوداني. منذ لحظة استقلاله في منتصف القرن العشرين، عانى السودانيون والسودانيات لإيجاد صيغة للتعايش بين مكوناته العرقية والدينية والثقافية المتعددة، إلا أن الانقلابات العسكرية، واستطالة عهود الشموليات، واستثمارها في الحروب وتوسيع التناقضات الاجتماعية بين السودانيين والسودانيات دوناً عن الاختلالات التنموية، وتجريف بُنى الوعي الحديث لصالح بُنى الوعي الشمولي، أجهضت أية محاولات للسودانيين والسودانيات في الوصول لمعادلة المضي للمستقبل، لكن الشعب السوداني أثبت مراراً وتكراراً أنه ينحاز لتلك الأحلام المؤجلة، فكل مرة ظن الشموليون أنهم قد قضوا على إرادته تحت رماد الوجع نهضت عنقاء شعبنا مرة تلو أخرى في 1964 و1985 وأخيراً حين أشرقت شمس ثورة ديسمبر 2018 التي فتحت كوة نورٍ لشعبنا حاملة معها آمالاً جديدة على أرض السودان. كانت الثورة تعبيراً صادقاً عن تطلعات الشباب/ات السوداني/ات لحياة كريمة وحرة، لكن وكما نعلم أجمعين فإن انحيازات معسكر الخراب كانت ومازالت ضد شوق شعبنا نحو النور فتآمرت عليه وعطلت مسيرة انتقاله وحاولت شد السودان إلى الماضي وحين فشلت كل تلك المساعي وفي سردية متكررة للتاريخ السوداني، اتفق أرباب الفجيعة على نقض حلم شعبنا في انقلاب 25 اكتوبر، ثم اختلف شركاء الانقلاب على تركة السلطة فاشعلوا حرب 15 أبريل 2023 لتنزع الحرب منا قدرتنا على الحُلم، وتستبدلها بفضاء من اليأس والإبلاس.
اليوم، يعيش الملايين من السودانيين والسودانيات في ظل نزاع دمر مدنهم وأحلامهم، وحولهم إلى لاجئين/ات ونازحين/ات في الداخل والخارج. الطرقات التي كانت تشهد مسيرات الثورة، باتت الآن مساحات للخراب والدمار. ومع ذلك، وسط هذه المأساة، تظل هناك إرادة عالية تسكن نفوس السودانيين والسودانيات، إرادة تقول إن هذا الوطن يمكن أن يولد من جديد، شريطة أن يُعاد تعريف أدوار الفاعلين السياسيين والمدنيين بانحياز جديد في عصر الألم والأمل هذا، وشريطة أن يكون هذا الانحياز انحيازاً إلى المستقبل، مستقبل الوطن الذي يسع الجميع.
إعادة تعريف العمل السياسي والمدني في زمن الحرب
في زمن الحروب، بالطبع يصبح العمل السياسي والمدني أكثر تعقيداً، لكنه أيضاً أكثر إلحاحاً؛ فالسودان اليوم لا يحتاج إلى شعارات الحروب والموت والخراب أو خطب مليئة بالوعود الجوفاء بالحسم العسكري السريع، بل يحتاج إلى رؤية سياسية حقيقية تُشرك الناس في بناء مستقبلهم، وترتكز على مبادئ أساسية وبأولويات واضحة، فهي تخاطب الواقع عبر الحديث عن حماية المدنيين، وتعزيز الوحدة الوطنية، وتستهدف المستقبل عبر صياغة رؤية تستهدف مد جسور الثقة – التي تضررت – بين الشعب والقوى المدنية الديمقراطية، هذه الرؤية تخاطب نظاماً سياسياً جديداً قائماً على الحرية والسلام والعدالة والانحياز للوطن الذي يسع الجميع ويحرسه جيشٌ واحد.
وفي هذا السياق المعقد فإن الحرب ألقت بظلالها على دور الأحزاب السياسية كما فعلت بكل البُنى الأخرى في المجتمع، الأحزاب التي تمثل صوتًا للمطالب الشعبية في وطن أفضل، تأثرت بصدمة اندلاع الصراع ووجدت نفسها في مواجهة تحديات غير مسبوقة، ووجدت نفسها أمام أسئلة كُبرى تتعلق بكيفية إعادة الوقوف بشكل جاد في وجه التحديات وسرديات النظام البائد، صحيحٌ أنه وبشكل عام فإن الأحزاب السياسية الديمقراطية ليست قادرة على التعامل مع تحديات النزاع المسلح بذات سرعة الكيانات ذات بُنى الوعي الشمولي؛ وهذا لا ينتج فقط لمشاكل تجريفها الواسعة التي تعرضت لها في العهود الشمولية، إلا أنها ولطبيعتها كقوى ذات بُنى حديثة في أغلبها فإنها وعند اندلاع حرب فجأة – كما حدث في السودان – تُفاجأ هذه القوى بحجم العنف وسرعة تفكك المؤسسات، مما يتركها في حالة ارتباك؛ الصدمة تأتي من كون الحرب تجبّ كل ما قبلها، فتُصبح القضايا الوطنية الكبرى (كالتحول الديمقراطي والعدالة الاجتماعية) ثانوية أمام قضايا البقاء وتأمين الاحتياجات الأساسية ورغم التحديات، فإن هذه الأحزاب تمتلك إرثًا من التنظيم والخبرة السياسية يمكن أن يُستثمر لإعادة تعريف السياسة كوسيلة لإيقاف الحرب وبناء المستقبل.
في واقع الحرب هذا فإن العمل السياسي لم يعد كافياً بمعناه التقليدي، لكنه ضروري بمعناه المستقبلي، السياسة هنا لا ينبغي أن تختزل في مجرد شعارات لكنها أداة استعادة دور المدنيين/ات الديمقراطيين/ات في المشهد الوطني، والسياسة هي أن تقدم بديلاً جادًا يعرض المستقبل بلغة تخاطب المتأثرين بالحرب، يعيد تعريف مصالحهم ويعالج مخاوفهم، هذا البديل يتمثل في رفض الانزلاق لمعادلة الحرب والموت، وعبر تقديم مشروع وطني جامع يحقق مطالب الشعب في الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية والسلام؛ السياسة، إذا ما تمت إعادة تعريفها بهذه الطريقة، يمكن أن تصبح جسرًا للسلام، وتحقق العدالة عبر مساءلة الأطراف المتسببة في النزاع وتصبح هي الطريق الذي يقودنا إلى المستقبل الذي لطالما حلمنا به.
أما على صعيد المجتمع المدني، فدوناً عن أدوارهم في توثيق الانتهاكات واشتراع حوارات في العدالة الانتقالية وبناء جسور السلام الاجتماعي بين السودانيين والسودانيات إلا أنه وفي ظل هذه الأزمة الانسانية الخانقة التي جعلت السودان الكارثة الأكبر على مستوى العالم، فإن دورهم المحوري الذي لا يمكن تجاهله – إضافة إلى ما سبق من أولويات – يكون في تخفيف معاناة المتأثرين بالحرب؛ منظمات المجتمع المدني السودانية، التي تأسست في أجواء ثورة ديسمبر المجيدة وقبلها، تقف اليوم أمام اختبار وجودي، لكنها أثبتت قدرتها على الاستجابة للأزمة بطرق مبتكرة تعكس روح التضامن والصمود لدى السودانيين والسودانيات، ففي الخرطوم – وفي كل أنحاء البلاد، تظهر أمثلة ملهمة على هذا الدور. غرف الطوارئ، على سبيل المثال، هي مبادرات مجتمعية محلية يقودها متطوعون ومتطوعات لتنسيق جهود الإغاثة. في غياب الدولة أو ضعف مؤسساتها، باتت هذه الغرف مراكز اتصال رئيسية لتحديد الاحتياجات الأساسية للسكان، مثل الغذاء، والدواء، والمأوى للنازحين؛ كما أن المطابخ المركزية تمثل كذلك استجابة مجتمعية لغياب شبكات الإمداد الغذائي. حولت مجموعات من الشباب والشابات المطابخ الصغيرة إلى مساحات لإعداد وجبات مجانية للمحتاجين. هذا الجهد، رغم بساطته، أصبح رمزًا للتكاتف المجتمعي، حيث شارك الجميع، من الطهاة إلى المتبرعين بالمواد الغذائية وحتى المتطوعين في التوزيع، لإبقاء الأمل حياً وسط فوضى البارود هذه.
إن الاختلاف في طبيعة الأدوار بين الأحزاب السياسية والمجتمع المدني في زمن الحرب واضح، لكن التفاعل الإيجابي بينهما هو العنصر الاساسي لبناء المستقبل؛ معاً، يمكنهما أن يقدما رؤية متكاملة لمستقبل السودان، رؤية تخاطب مطالب الشعب في السلام والعدالة، وتبني وطناً يسع الجميع.
الحرب في السودان كشفت هشاشة البُنى التقليدية، لكنها أيضاً أظهرت قوة الإرادة السودانية الديسمبرية التي لم تنكسر ولو تراكم عليها الرماد، وأكدت قدرة القوى السياسية والمدنية على إعادة اكتشاف أدوارها، وفي رأيي أن السودان يمكنه النهوض من جديد إذا استثمر هذه اللحظة لبناء تحالف حقيقي بين السياسة والمجتمع، يوحد الجهود حول مشروع وطني يعيد للسودانيين أجمعين – رجالاً ونساءً – القدرة على الحلم بوطنهم الذي يرغبون به.
وعلى العموم هنا، دعونا نؤكد أن السلام الذي نطلبه بشكل جماعي ليس مجرد وقف إطلاق النار، أو غياب الحرب؛ بل هو عملية بناء شاملة للمجتمع على أسس من العدل والمساواة؛ لتحقيق هذا السلام في السودان، يحتاج العمل السياسي والمدني إلى أن يكون مترابطاً؛ فلا يمكن أن تكون هناك مصالحة وطنية حقيقية دون إشراك المجتمع المدني في صياغة الحلول وتنفيذها. وبالمثل، لا يمكن أن يستمر العمل المدني بمعزل عن الجهود السياسية لإنهاء الحرب، إن تشكيل الأساس للمشروع الوطني الشامل يعالج القضايا العالقة منذ الاستقلال؛ يمر عبر قدرتنا لفهم هذه الطبائع المتكاملة بين القوى السياسية والمدنية ومن خلال فهمنا أيضاً لتعقيد هذه الأزمة الوطنية ومن خلال قدرتنا على التمتع بالمرونة الكافية للانحياز لمستقبل جديد.
أفق المستقبل: ما العمل؟
أخيراً؛ ورغم كل الألم الذي يحيط بالسودان اليوم، فإنه وإذا ما اختزنا من حكمة الوجع هذا ما نمضي به إلى الأمام فإن المستقبل الذي نحلم به يظلُ ممكناً لنا؛ يمكن لعنقاءنا أن تقوم من رمادها من جديد وأن نجعل الاحلام المؤجلة واقعاً، وأن يصبح السودان نموذجاً يحتذى به في تجاوز آثار الحرب وإعادة بناء المجتمع، لكن وللوصول إلى ذلك المستقبل الافضل فإن هذا يتطلب منا في اللحظة هذه إرادة جماعية، ليس فقط من النخب السياسية والمدنية الديمقراطية، بل من كل سودانيٍّ وسودانية، بما في ذلك الجيش والدعم السريع، أن نتداعى بشكل جماعي للتفكير الصحيح في حل هذه الكارثة الوطنية وهنا عله ربما تكون الخطوة الأولى هي إعادة التفكير في معنى “الوطن”، أن السودان ليس مجرد حدود جغرافية أو علم يُرفع في المناسبات الرسمية، السودان حلم، وقضية، ومسؤولية. وإذا ما استطاع السودانيون والسودانيات أن يروا وطنهم بهذه الطريقة، فإن تجاوز كل الصعوبات والتعقيدات هذه مسألة وقت ليس إلا.
قد يكون السودان اليوم يقف على حافة الهاوية، وقد يكون ماضينا مضطرباً وحاضرنا مختنقاً بالبارود؛ لكننا وفي نفس الوقت، نؤمن بأن هذه المحنة تحمل بين طياتها بذور النهوض من جديد، العمل السياسي والمدني – رغم كل التحديات – يظل الوسيلة الوحيدة لإحياء هذا الوطن، أعلم أنها معركة طويلة، لكننا أثبتنا قدرتنا على كسر الأبواب العملاقة التي تمنعنا السير على طريق الصباح، وأننا نقدر على مواجهة المستحيل، قد تكون الحرب قد مزقت الجسد، لكنها لم تنل من الروح. وما دامت الروح حية، فإن السودان يبقى ليعيد أبناؤه وبناته البناء يوماً ما – أراهُ قريباً – على أسس من السلام والعدالة والكرامة.
حسام أبوالفتح
25 نوفمبر 2024