كم من الوقت سنمشي في طرق النزوح المتعرجة؟
تقدم هيومن أبيل الوجبات في مركز إيواء يضم 3 ألف نازح بالحارة (76) كما تقوم بتوزيع20 ألف من رغيف الخبز يوميًا للمستحقين في أم درمان
الخرطوم – هديل عماد الدين
مثلها وملايين الأسر السودانية اضطرت أسرة عبد المنعم علي محمد خير إلى النزوح من المنطقة الملتهبة بنيران الاشتباكات العسكرية، ومغادرة حي أمبدة، غربي أمدرمان، بحثاً عن ملاذ آمن خارج السياقات الحربية.
تسببت ضراوة القتال في المنطقة في اتخاذ القرار القاسي. وبعد رحلة معاناة شاقة وطويلة وصلت الأسرة المكلومة إلى “كرري” شمالي العاصمة الخرطوم.
يقول عبد المنعم لـ”أفق جديد”: “قررت الخروج من الحي بعد خلو المنطقة من السُكان”، ويسترسل: “عشنا مُعاناة كبيرة بغية الحصول على معينات الحياة”، مشيراً لانعدام الأمن ونقص المياه والكهرباء وانعدام الخدمات الأساسية التي أجبرتهم على الخروج.
وتابع منعم: “أعاني من ضعف النظر الحاد، وأحتاج إلى من يقودني، وبناتي يتحملن العبء الأكبر في البحث عن الغذاء والماء، واضطررت السير لمسافات طويلة للوصول إلى أقرب متجر مفتوح لشراء الاحتياجات اليومية”.
سُمية وهي إحدى بنات عبد المنعم، تحدثت لـ”أفق جديد”، تحدثت هي الأخرى عن صدمتها من اندلاع الحرب وعن الجهود التي بذلتها وعائلتها للصمود في ظل الظروف القاسية، وقالت: “تفاجأنا بالحرب ولم تكن في حسباننا. حاولنا الصمود طوال السبعة أشهر الأولى لكننا لم نستطع أكثر من ذلك”.
ويتطابق تبرير سُمية مع ذات الأسباب التي ساقها والدها عبد المنعم عندما سردت الصعوبات التي ألمت بحياتهم، فضلا عن الأمراض التي حفت أسرتهم.
وأضافت بالقول: “عشنا تجربة مريرة عندما أصيب والدي بالملاريا. سهرنا أنا وأختي كي نخفّض درجة حرارته باستخدام الكمادات الباردة، واستمر الحال حتى الصباح”.
وعند سؤالنا لها عن الوضع الأمني في المنطقة، أشارت إلى أنها كانت مؤلمة بالنسبة لهم، وأن جيرانهم تأثروا كذلك. واسترسلت: كنا نسمع أصوات صراخ، الطبل وهي تتكسر، وفي الصباح تأتينا الأنباء بموت “فلان”.
وأشارت سُمية إلى الصعوبات التي واجهتها كذلك في تأمين احتياجات أسرتها الأساسية واستحالة الحصول على سيولة نقدية. وتشرح بمزيد من التأكيد: “كنا في معاناة مسترسلة. قبل كل شيء فاجأتنا الحرب كموظفين في الجانب المادي. قضت على مدخراتنا على قلتها، وبتنا نعتمد على المصروفات والإعانات المرسلة لنا من الخارج”، مشيرة على أن الحصار المفروض على المنطقة أدى كذلك إلى ارتفاع الأسعار ونقص السلع.
وتابعت بالقول: “كنا نعتمد على وجبات بسيطة ومحدودة، ولكننا كنا نشعر بقيمة كل لقمة تدخل جوفنا”.
وعلى الرغم من معاناة سُمية وعائلتها، إلا أنها أكدت على أهمية التماسك الاجتماعي قائلة: “وجدنا الكثير من الدعم والمساعدة من جيراننا و أصدقائنا. هذا التضامن هو ما أعطانا الأمل في المستقبل”.
ويكابد النازحون في ولاية الخرطوم أوضاعًا إنسانية بالغة الصعوبة طبقاً لجولة “أفق جديد” في عدد من الأحياء المتأثرة بالحرب؛ حيث يعيشون في مخيمات عشوائية أو لدى أقارب وأصدقاء، وفي ظل ظروف صحية واقتصادية متردية، فضلاً عن تشتت الأسر، ونقص الغذاء وحاجتهم الماسة للمياه النظيفة، والرعاية الصحية، ومجابهتهم تحديات متعاظمة في مختلف الضروب الحياتية.
ويقول عبد الباري حسن، وهو مدير إحدى المشاريع في منظمة “هيومن أبيل” البريطانية، إن مدينة أم درمان قد شهدت خلال الفترة الأخيرة تدفق أعداد كبيرة من النازحين من مناطق متأثرة بالحرب مثل أم بدة، الفتيحاب، والمهندسين، بالإضافة إلى مناطق شمال بحري مثل الكباشي والخوجلاب، وأيضًا من ولايات أخرى.
ويشير عبد الباري خلال إفادته لـ”أفق جديد”، إلى أن النزوح بسبب تدهور الأوضاع الأمنية؛ ما يجعل هذه المناطق غير آمنة بسبب الانتهاكات المنظورة لقوات الدعم السريع، مشيراً إلى أن المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش في أم درمان بات يُنظر إليه كمناطق حماية للمواطنين خارج خارطة الانتهاكات.
وعند سؤالنا له عن ما إذا كان هنالك إحصائيات لأعداد النازحين في ولاية الخرطوم أجاب قائلًا: “لا توجد إحصائيات دقيقة حول أعداد النازحين في أم درمان بسبب الطبيعة الديناميكية للنزوح، حيث يشهد الوضع حركة نزوح يومية مستمرة من وإلى المناطق التي أصبحت آمنة بعد سيطرة الجيش عليها، مثل أم بدة، الفتيحاب، والمهندسين”. ومع ذلك، كما يقول، تبذل بعض الجهات الخيرية جهودًا لتقديم الدعم، ومن أبرز المبادرات الإنسانية انتشار التكايا التي تقدم الطعام للنازحين في معظم أحياء أم درمان، بجهود من منظمات خيرية وجهات داعمة.
ويشير عبد الباري، وهو أيضًا مدير مشروع (النقد مقابل العمل)، إلى أن مبادرتهم كانت واحدة من المشاريع البارزة لدعم النازحين في أم درمان، حيث نفذتها منظمة “هيومن أبيل” بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبالتعاون مع لجان الأحياء، موضحاً أن المشروع يشمل تسجيل النازحين والمقيمين لتشغيلهم في أعمال النظافة العامة، مما يساهم في تحسين البيئة وتوفير دعم مادي للمشاركين.
ومع ذلك، يواجه المشروع تحديات جمة طبقا لمحدثنا، بسبب مغادرة عدد من المسجلين إلى منازلهم بعد تحسن الوضع الأمني، بينما استمر بعض النازحين في المشاركة واستفادوا من عوائده.
وللمنظمة كذلك مركز إطعام في الحارة (76) كما يقول عبد الباري، يقدم الوجبات إلى مستحقيها في مركز إيواء يضم 3 ألف نازح، كما تقوم بتوزيع 20 ألف من رغيف الخبز يوميًا للمستحقين في كل مناطق أم درمان.
معتبراً أن الاحصائيات لا تمثل العدد الحقيقي لأن حجم النزوح كبير جداً في أم درمان. وتابع: “أم درمان تمثل ملاذًا آمنًا للنازحين، وسط جهود محلية ودولية لتحسين أوضاعهم”، معتبراً أن التعاون بين المجتمع المحلي والمنظمات الإنسانية ساعد في تخفيف معاناة النازحين وتحسين الظروف المعيشية في المدينة.