لا بد من قرني وإن “. . . . .”

السر السيد
قراءات ذات بهجة

السر السيد
توطئة:
كان من تقاليد المعهد العالي للموسيقي والمسرح، الاستعانة بالخريجين للتمثيل في مشاريع تخريج طلاب قسم التمثيل والإخراج، ومن هنا كانت المرة الأولى التي رأيت فيها الفنان محمد عبدالرحيم قرني، الذي كان قد تخرج في العام 1979. شاهدته وهو يقوم بتمثيل شخصية “أوكونكو”، بطل رواية (الأشياء تتداعي) للكاتب النيجيري تشينوا أتشيبي، التي اتخذت عنوان (أكونكو)، بعد أن أعدّها للمسرح الطالب آنذاك الأستاذ إبراهيم البزعي، ليتخرج بها الطالب آنذاك الدكتور حاج أبا آدم، ثم كانت المرة الثانية وفي نفس ذات المشاريع عندما قام بتمثيل شخصية “الأب”، في مسرحية (الأب)، للسويدي أوغست استراندبيرج، التي تخرج بها الطالب آنذاك المخرج التلفزيوني المعروف الفقيد أسامة الجوخ، عليه رحمة الله.
بعدها تعرفت عليه اكثر، كممثل، في المسرح ودراما الراديو والتلفزيون وكمؤلف ايضا، وليس هذا فحسب وانما ايضا كمخطط ومعلم لفنون المسرح والدراما،كما في تجربته الطويلة في قصر الشباب والاطفال.
خلال هذه المعرفة الممتدة واللصيقة من مطلع ثمانينيات القرن الماضي وإلى الآن، كنت شاهدًا على عروض مسرحية ودرامية كثيرة شارك فيها الفنان قرني، ففي المسرح شارك ممثلًا في مسرحيات، (مأساة يرول) للخاتم عبدالله والمخرج السماني لوال، و(إمبراطورية الجداد) لذو الفقار حسن عدلان والمخرج قاسم أبوزيد، و(ضو البيت) للطيب صالح ومن إعداد محمد محيي الدين مع المخرج قاسم أبوزيد، و(سهرة مسرحية) لمصطفى أحمد الخليفة والمخرج يحيى فضل الله، كما كتب مسرحية (أحلام العطا ود زينب)، وأعد واحدة من قصص الروائي جمال الغيطاني ضمن مجموعته القصصية (ذكر ما جرى). أيضًا قدم عروضًا مسرحية في الأماكن المفتوحة، كما حكت لي الفنانة الكبيرة نعمات حماد. وفي دراما التلفزيون شارك ممثلًا في مسلسلات “الشاهد والضحية”، لعادل محمد خير والمخرج فاروق سليمان، و”دماء على البحر” لعادل محمد خير والمخرج عبدالرحمن محمد عبدالرحمن،
و”مهمة 56″ لقسم الله الصلحي والمخرج شكرالله خلف الله، كما شارك في بعض حلقات سلسلة “متاعب” للمخرج محمد نعيم سعيد، ومثّل في عدد من الأفلام التلفزيونية منها فيلم “صهيل العقَاب” للمخرج مجدي النور، هذا إضافة إلى سلسلة،
(ناس وناس)، التي كتب معظم حلقاتها وانتجت تحت إشرافه والممثل القدير الرشيد أحمد عيسى، وفي معية مجموعة من خريجي قصر الشباب والأطفال مع المخرج مجدي النور. أما في دراما الإذاعة فيعد الاسم الأبرز في معظم المسلسلات والتمثيليات تحديدًا من التسعينيات وإلى الآن، فلا يكاد يغيب صوته عن عمل درامي إذاعي يحمل قيمة فنية وفكرية. يضاف لهذا بالطبع ما قدمه من مساهمات نظرية.
بعد هذا العرض لبعض من سيرته الإبداعية الباذخة سأقدّم شهادتي مسلطًا الضوء وبالقليل من التفاصيل على بعض ملامح هذه السيرة.
الإضاءة الأولى:
وهي عن قرني الممثّل بتركيز على بعض الشخصيات التي جسّدها، وأشير أولاً إلى ميزة عُرف بها بين أقرانه وهي رهانه على النص الجيّد شكلًا ومضمونًا، فقد كنت شاهدًا على اعتذاره عن المشاركة في بعض النصوص المسرحية والتلفزيونية والإذاعية، لذلك جاءت الشخصيات التي جسدها بكل ذلك الجمال والتعقيد في البناء والمصائر المتسائلة، كشخصية (أكونكو)، الزعيم التقليدي لعشيرة أفريقية، المتنازَع بين أسئلة الهوية والتغيير والتقدم، وبين ثقافته الأم ونزعاته الشخصية المتعالية ومقاومة ثقافة المستعمر، إنه ذلك البطل المأساوي الذي ينتهي به المطاف إلى أن يشنق نفسه. أو شخصية (الأب)، شخصية الضابط المتقاعد، المهتم بالعلم الذي ينفق أمواله في شراء الكتب ويعيش مع زوجة تنازعه في تحديد مستقبل ابنتهما التي يحبها كثيرًا لتقوده في الأخير وبمقدرة فائقة في الشر إلى الجنون. أو شخصية (محيميد) في مسرحية ضو البيت، تلك الشخصية المتعلمة التي تعرف كل شيء ولكنها تترد في اتخاذ الموقف المناسب بحثًا عن السلامة، كما في موقفه من حُسنة بت محمود التي طلبت منه أن يتزوجها فخذلها. أو شخصية (العراف) في مسرحية مأساة يرول، تلك الشخصية التي تمثّل “السلطة الدينية” في مجتمع القرية، ولأنها كذلك تقرر أن تقدم أجمل فتيات القرية “يرول” قربانًا حتى يهطل المطر. هذا العراف الذي نكتشف إنه قرر قتل يرول ليس إرضاء للآلهة فقط وإنما لأنها رفضت ممارسة الجنس معه. أو شخصية (أبو سنيدة) في مسلسل الشاهد والضحية، تلك الشخصية التي تجد نفسها في علاقة مع أصحاب النفوذ، وتتحمل وزر جريمة قتل لم ترتكبها فتصبح الشاهد والضحية في نفس الوقت، ويقع على عاتقها فضح الوضع برمته خاصة في مستواه القانوني، لتنتهي مشنوقة في زنزانتها، ضحية لعلاقات القوة.
هذه الشخصيات التي جئت بها على سبيل المثال، كلها شخصيات مركبة، كثيرة التعقيد، وكلها عبّرت عن أسئلة ذات أبعاد نفسية عميقة، وذات صلة بالهوية الشخصية والهوية العامة، وكلها انتهت إلى مصائر مأساوية، كالانتحار والجنون والقتل والأنانية والفضيحة. هذه الشخصيات كلها نطق بها الممثل محمد عبد الرحيم قرني بكل توتراتها وصراعاتها مع ذاتها ومع ما يحيط بها، جسّدها قرني كأبلغ ما يكون التجسيد، فلا زلت أذكر الطريقة التي قتل بها يرول (الممثلة تهاني عبدالله)، فقد استطاع أن يغرز السكين في بطنها عبر أداء يشبه (الإيلاج الجنسي)، في دلالة عن التعبير عما حرمته منه، ولعمري هذه مقدرة فائقة في التمثيل لا تدل فقط على فهم أبعاد الشخصية وإنما تدل على معرفة بمقدرة (السلطة) في احتلال الأجساد. ولا زلت أذكر كذلك أداءه في ذلك المشهد، في مسلسل الشاهد والضحية الذي جمع بينه وبين الضابط “الهادي الصديق”، وهو في زنزانته والضابط يحدثه عن العدالة والقانون. لقد مزج قرني هنا بين الأداء المسرحي والأداء التلفزيوني في مشهد يتطلب هذا المزج لأنه يقوم على ما يشبه المرافعة، فقد كان رده على الضابط، ما يلي:
أبوسنيدة: قانون.. ياتو قانون.. نسيت إنو القانون في البلد دي أبكم وأطرش وعميان.. قانون ما بيطال إلاّ الناس الما عندهم ضهر.. إنت منو؟ وبتعرف شنو عن الناس الاترحلو بالليل في عز البرد.. وجو الخرطوم عشان يدلو بأصواتهم لواحد مرشح تافه؟
الإضاءة الثانية:
وهي عن سلسلة (ناس وناس)، وحولها أقول: إنها جاءت نتيجة لرغبتنا في إدارة الدراما في ذلك الوقت، في تعميم صيغة (المنتج المنفذ)، لتشمل أصحاب المصلحة الحقيقيين من فرق وجماعات وألا تكون وقفًا على شركات الإنتاج، وفرقة الأصدقاء المسرحية، وكذلك رغبتنا في خلق تنافس حميد بينها، فكان أن تفاكرنا مع قرني والرشيد أحمد عيسى ومجدي النور في إنتاج سلسلة درامية، اختاروا لها هم عنوان (ناس وناس)، لتكون جنبًا إلى جنب مع سلسلة متاعب وكركتير لجمال حسن سعيد والسلسلات الأخرى. اتخذت هذه السلسلة أسلوب الورشة أو المعمل في صناعة عروضها، وقد كان لقرني الدرور الأكبر في جعل هذا ممكنًا خاصة وأن معظم الفاعلين فيها من تلامذته. قدمت هذه السلسلة عدد 13 حلقة، بزمن 40 دقيقة للحلقة. كتب منها قرني 10 حلقات، والمخرج عادل حسن الياس حلقة واحدة، ومجدي النور حلقة واحدة، وكانت الحلقة الـ 13 فيلما من تأليف الكاتب أنس عبد المحمود. نَحَت هذه السلسلة في طرح الموضوعات ذات الطابع الاجتماعي، لذلك جاءت مختلفة نوعًا ما عما تقدمه فرقة الأصدقاء. يحمد لهذه المجموعة إنها لم تكن وقفًا على منسوبيها، فقد استعانت ببعض الممثلين كالرائد المسرحي محمد خلف الله والفنانتين فايزة عمسيب وسامية عبدالله، كما كان تميُّزَها في أنها قدمت الرائد المسرحي محمود سراج، وربما للمرة الأولى في غير شخصيته التي عرف بها، (شخصية أبو قبورة).
لقد شكّلت سلسلة (ناس وناس)، إضافة نوعية في المشهد الدرامي التلفزيوني، كما أنها كانت فرصة للكثيرين في التعرّف على طرائق الكتابة لدراما التلفزيون والتمثيل للتلفزيون.
الإضاءة الثالثة:
سأفردها للدراما في قصر الشاب والأطفال. من المعلوم أن قصر الشباب من إنجاز نظام مايو 1969-1985، وكان قد افتتح في 29 مايو 1977 كصرح قامت بتشييده وبكل احتياجاته كوريا في عهد رئيسها كيم ايل سونغ. أن تأتي على سيرة الدراما في القصر، فأنت لا محالة تعني الأستاذ محمد عبد الرحيم قرني، فقد ارتبطت باسمه وارتبط بمشروعها نظريًا وعمليًا، وكذلك بتقاليدها. صحيح إنه جاء إلى قسم الدراما متعاونًا في العام 1980 وتم تعيينه رسميًا في العام 1981، وسبقه في التدريس من خريجي المعهد العالي للموسيقى والمسرح الأساتذة الأمين مسمار جماع، وصلاح الحسن حماد، وفادية الجنيدابي، إلا أن ما جعل اسمه يرتبط بدراما القصر وترتبط هي باسمه الفترة الطويلة التي قضاها في قسم الدراما وهي الفترة الممتدة من العام 80 إلى 1992، تاريخ تقاعده الاختياري، بسبب مضايقات طالته شخصيًا وطالت جدوى ما يقدمه قسم الدراما بمنظار أوائل التسعينيات. وفّرت له هذه السنوات الطويلة، إضافة إلى أنه موجود وفاعل في المشهد المسرحي والدرامي على عكس من سبقوه؛ وفّرت له فرصة الاشتغال في تطوير المنهج وخلق تشبيك خلّاق مع فاعليين مسرحيين، ومع مؤسسات نظيرة كالمعهد ومؤسسة الدولة للسينما، فكان أن توفّر للقسم خريجين كثر ومن دفعات مختلفة كالأساتذة حامد جمعة، عبد الجبار عبدالله، عادل سالم حمادة، الرشيد أحمد عيسى، ندوة حسن وغيرهم. من الأفكار ذات الدراية بطبيعة المسرح والدراما التي يعود فضل تنفيذها والإشراف عليها له، فكرة تأسيس (نادي الدراما)، الذي مثّل الحيّز الذي تتخلق به وفيه إبداعات الدارسين والدارسات في التمثيل والإخراج والتأليف، ومن هذا الحيز خرجت أولى إبداعات سيد صوصل وعبدالعظيم حمدنا الله وغيرهم. يستطيع الناظر للمشهد المسرحي والدرامي خاصة في فترة الثمانينيات وما بعدها أن يرى مساهمات نادي الدراما وأن يلمس دور قرني في هذه المساهمات، ويكفي هنا أن نشير إلى أسماء كثيرة لها موقعها المتميز في هذا الحقل كانت على صلة بالقسم. أسماء لامعة كثيرة لا يمكن حصرها، وعروض وأنشطة وأدوار في الشأن العام للمسرحيين كان لمنسوبي القصر حضورًا فيها، فنّاً، ومشاركةً، ومشاكسةً.
لا تكتمل هذه المقالة إلا بالإشارة للوجه الآخر من قرني، حيث اعتزازه البليغ بقيمة الفنان وتأكيد أصالته في ما يقوم به، وحيث سعيه الدؤوب في غرس قيمة (الالتزام)، وأخلاقيات المهنة وكأنه شيخ لطريقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى