“الكنابي”.. فم لا يتكلم وقلب مفطور


أفق جديد
هي أقرب إلى الأكواخ منها للمنازل، متراصة تنعدم فيها سبل الحياة. كان دخولنا إليها عبارة عن معجزة فأهل “الكمبو” – مفرد كلمة “الكنابي” التي تصدرت مشهد الأحداث في الأيام الماضيات – متحفزين للغاية ويدققون في هوية كل من يريد الولوج إلى داخل هذه المستعمرة، التي لا تبعد عن إحدى مدن ولاية الجزيرة سوى كيلومترات معدودة، بعض الصبية يلهون، ثيابهم بالية، وعيونهم شاخصة، وتكاد أن تحسب عظام صدورهم البارزة من أثر الجوع البائن في كل شيء، استفسرناهم عن منزل من نقصد.. واضح من طريقة إجاباتهم على سؤالنا أن تلقينًا أو قل تدريبًا تم لهولاء الأطفال، عن كيف يجيبون على الغرباء، بعد حوار أقرب للتحري قاده هولاء الصبية الذين لا يتعدى عمر أكبرهم السنوات العشر إلا بقليل عن ماذا نريد منه، طالبونا بالبقاء في مكاننا، اختفوا داخل أحد المنازل، بضع دفائق مرت ليخرج إلينا عدد من الرجال، وبدأت موجة ثانية من التحري، حول مهمتنا، ولماذا أتينا إليهم وكيف وصلنا إلى هنا في ظل هذه الطروف، كان الخوف والتوجس مسيطرًا على هولاء الناس، اختلفوا فيما بينهم بعضهم يريدنا أن نكمل مهمتنا ونعكس وجهة نظرهم والآخر يرانا بداية لشر مستطير سيحل بهم.
كل شيء هنا يحدثك عن المأساة: الخوف، الجوع، التوجس، قسوة الحياة، والارتياب في كل شيء، والعبارة التي تجري على لسان كل من تحدثنا إليه، ما هو مصيرنا وبماذا تنصحنا، هل ننزح قبل أن تصل إلينا القوات المسلحة، أم نبقى في منازلنا وننتظر ماذا سيحل بنا.
كان ذلك السؤال قاتلًا لي أولًا لأني لا أملك له إجابة، وثانيًا لأن القوات المسلحة التي أدى ضباطها وأفرادها القسم على حماية المواطن والحفاظ على أمنه باتت مصدر رعب، واسمها يبعث على الخوف في النفوس. في نقاشنا الأول الذي سمح لنا بموجبه أن ندخل إلى الكمبو، اتفقنا على أن لا نصور، وأن لا نورد أي إشارة تدل على هذه المنطقة، لذا كل الأسماء التي سترد في هذه القصة هي مستعارة، لشخوص هم أحياء في انتظار الموت، أو موتى بتشبثون بالحياة.

جسم غريب:
سكان (الكنابي) في ولاية الجزيرة هم مجموعات من مختلف الإثنيات، لا يمكن أن تجيرهم لصالح فئة أو جغرافيا محددة، فيهم من تنحدر أصوله من غرب السودان، وبهم من ينحدر من قبائل تنتمي إلى جنوب السودان، ومن بينهم من لا يعرف غير الوسط قبيلة، يعانون من حقوق المواطنة المتساوية والحرمان من الحق في السكن الإنساني اللائق، كما تمتد معاناتهم من عدم توفير الخدمات من مياه صالحة للشرب وكهرباء، ومؤسسات تعليمية في المراحل المختلفة، ومؤسسات صحية وغيرها.
فهم لا يملكون المنازل التي يسكنونها بشكل قانوني، إذ لا يوجد ورق يثبت ملكيتك للأرض التي ولد والدك عليها وحبت أمك في ترابها، مما يعني إنك مهدد بالطرد في أي لحظة، يعاملك سكان القرى أو المدن المجاورة كغريب لا يحق لك حتى الضحك بصورة عالية، هكذا يقول محدثنا من كمبو “اكس” “نعم أولادنا يدرسون في مدارسهم، وفي بعض الأحيان يجاملوننا في مناسباتنا، ولكن عمرهم لم يحسسوننا بأننا جزء من نسيج هذه الولاية، ولا لها ننتمي، رغم إن بعض أولادنا تعلموا، والبعض الآخر اشترى “حواشات” في المشروع، ولكن لم نستطع انتزاع اعتراف المجتمع، فمهما ارتفع مقامك علمًا أو مالًا تظل ابن الكمبو”، لذا الكثير من أبناء الكنابي بحسب محدثنا “الذين يفتحها الله عليهم يهجروا الكمبو ويذهبون ليأسسوا حياتهم بعيدًا عن الجزيرة”.
ويقول الصحافي حسين سعد في تقرير نشره في العام 2022، مسلطًا الضوء على قضية الكنابي من وقت مبكر “لم تؤدِّ النهضة الاقتصادية التي شهدتها ولاية الجزيرة إلى تغییر اجتماعي، وذلك يعود لعدم اتباع سیاسة تحدیثیة للمجتمع التقلیدي، وعدم إفساح المجال للتغییر الاجتماعي حتى لا یحدث تطور في أسالیب حیاة السكان المعیشیة، في رؤاهم وأفكارهم، فیقاوموا سیاسة الخضوع التام، ویطالبوا بزیادة نصیبهم من الأرباح، وقد نجحت هذه السیاسة في تحقيق هدفها، وقد قامت تلك السیاسة على دعائم (3) هي الإبقاء على الصفوة التقلیدیة التي كانت سائدة قبل المشروع، كما عمدت الإدارة من خلال علاقات الإنتاج تحدیداً لوضع الحساب لعدم ظهور طبقة رأسمالیة حدیثة”.
ولأهالي الجزیرة اعتداد خاص لكونهم یقطنون المنطقة التي یعمرها المشروع، ویعتبرون أنفسهم طبقًا لذلك من ذوي الحظوة إذا ما قُورنوا برصفائهم في بقیة مناطق السودان. وقد عبر عن هذا الشعور أحد أعلام الجزیرة الشیخ محمد عبد الله الوالي في مقال له نشرته جریدة الجزیرة في عددها (380) في العام (1960) حیث ذكر: (إن سكان الجزیرة إذا قورنوا بإخوانهم سكان أریاف السودان الأخرى لكانوا محظوظین، أولاً لأن آباءهم قد اختاروا لسكنهم هذه المنطقة التي تتوسط السودان المستویة الأرض الخصبة التربة الواقعة بین فرعي النیل الأزرق والأبیض. وثانیاً لأن ظروف منطقتهم هذه قد رشحتها لیقوم فیها هذا المشروع العظیم، الذي كان ولا يزال أهم مشروع اقتصادي بالبلاد).
ويقول صديق المنصوري، سبعيني من كمبو “اكس” الذي زرناه، وصلت إلى هذه المنطقة وأنا عمري لا يتعدى الثمانية عشرة عامًا، عملت بمعظم تفاتيش المشروع وتنقلت بينها، أحفظ الجزيرة “كنار كنار” و”ترعة ترعة”، فأنا أنتمي لفئة العمال في المشروع. وبضيف معلوم أن هذه الفئة تسهم بما لا يقل عن (75%) في العملية الإنتاجية مقارنة بمساهمة المزارعين بمختلف فئاتهم التي تبلغ (25%)، وإذا وزعت العائد الإنتاجي فنصيب العمال الزراعيين في أفضل حالاته لا يتعدى 15%، بينما يذهب متبقي العائد إلى ملاك الأرض، وهم الحكومة والمزارعون.
ويمضي قائلًا: “عملت في المشروع حتى تقاعدت. لم نكن سابقًا نعرف شيئًا عن الحقوق يا ابني، فنحن بالكاد نكتب اسمنا، ولكن الآن الأولاد اتعلموا، وطلعوا وشافوا ولا يرضيهم حالنا الذي عشنا فيه ولا يريدون لأبنائهم أن يعيشوا كما عيشناهم نحن، فنقمة الحكومة علينا ليست جديدة، فمنذ النظام السابق بدأت الدولة تتحرش بنا وبأبنائنا، اعتقلوا في العام 2018 عددًا منهم، وظللنا موضع اتهام لأهل القرى التي التي حولنا، وفسروا مطالبتنا بامتلاك المنازل التي نقيم فيها جريمة رغم أن الأرض أرض حكومية، وهم سودانيون ونحن سودانيون ومن حقنا الأساسي أن نمتلك منازلنا”.


إهمال متعمد:
تشكل القوى العاملة بمشروع الجزيرة نسبة (7%) من جملة القوى العاملة في السودان، وتشكل العمالة الأسرية (30%)، والمحلية (17%)، والوافدة نسبة (53%) منها حوالي (20%) عمالة خاصة بجني محصول القطن، بحسب التقارير الاقتصادية لبرنامج التحديث والتعمير لسنة 1982.
ظلت وضعية الكنابي وسكانها محل إهمال من الحكومات المتعاقبة، ولكن النظام البائد مارس على بعض سكانها تهميشاً متعمداً، ودمغ بعضهم بأنهم موالون لحركات الكفاح المسلح من دارفور، ومارس عليهم تضييقاً جعل بعضهم يترك الجزيرة ويهاجر للعاصمة بحثاً عن الأمان والاستقرار، وحاولت محلية الكاملين تنفيذ مشروع تجميع سكان (الكنابي) في مجمع وتشييد قرى نموذجية تتوفر بها الخدمات الضرورية، وفي انتخابات 2010م و2015م مارس النظام المخلوع ألاعيب ماكرة على سكان (الكنابي) من خلال التلاعب بمطالبهم وربطها بالتصويت لحزبه -المؤتمر الوطني المحلول- وقتها، حيث تم جمع عدد ضخم من مواطني (الكنابي) بإحدى المحليات وتمت دعوة رجال المال والأعمال والغرف الصناعية والتجارية لتسويق فكرة المجمع السكني والتبرع لتشييده، وحصولهم على قطعة أرض سكنية، لكن الحقيقة المرة أن المشروع لم ينفذ.

فم لا يتكلم:
“الشعور بالتهميش والإقصاء هو المسيطر علينا، وعلى كل من عاش هنا، نعاني من العنصرية، والتهميش في كل مناحي الحياة”، هكذا يقول خالد أبو يوسف من كمبو “اكس”، ويتابع: “نحن عبارة عن فم يجب أن لا يتكلم، ويد خلقت فقط من أجل أن تعمل في الأرض لصالح الغير، هم يريدوننا أن نكون كذلك، يتذكروننا عند الاتنتخابات والتجمعات الجماهيرية ببضع رغفيات وقليل من الجنيهات، يستغلون جهلنا وحوجتنا لخدمة أغراضهم”، ويضيف، في حديثه لـ”أفق جديد” “الآن نحن موضع اتهام بمولاة الدعم السريع، فقط لأننا لا نملك أمولًا مثلهم لننزح، النزوح يا سيدي رفاهية لا يملكها كل الناس”. يقاطعه عبد الرحيم الذي كان يجلس أمامنا على سجادة صلاة، عارضًا مقطع فيديو يتحدث فيه شخص ملتحٍ، يتزيَّا بزي القوات المسلحة، مهددًا من أسماهم بالمتعاونين في المناطق التي لم يصلها الجيش، قائلًا “شوف شوف، بهددونا كيف، لماذا يتهمونا وحدنا بمولاة الدعم السريع، لأن الدعم السريع لم ينهب ممتلكاتنا؟ ماذا ينهب منا الدعم السريع؟ وماذا سيجد في منازلنا لينهبه؟”. ويردف متسائلًا “هل نهب الدعم السريع رفاعة، هل نهب منازل تمبول والحصاحيصا، لماذا لم يتهمنوهم؟ هل لأننا ننتمي إلى مناطق ليست من الشمال والوسط؟”. عند هذه النقطة أشار إليه المنصوري، ذلكم الرجل السبعيني الذي يجد التقدير من الجميع، طالبًا منه الصمت.
حديث عبد الرحيم ومطالبة المنصوري له بالصمت وترت الأجواء قليلًا. طلبت منهم الحديث بحرية كاملة فأنا هنا لا أمثل الشمال ولا الوسط، وإنما جئت لأعكس قضية، تهللت أساريرهم وبعدها بدأوا في الحديث، مؤكدين أن الدعم السريع هو الجهة الوحيدة التي تعاطفت معهم، في هذه الحرب، ومسك دفة الحديث أبو يوسف ليقول: “نغم تعاطف أفراد الدعم السريع معنا، مدونا بالدقيق والعدس، وأحيانًا الماء عندما ينقطع. لم نرَ منهم مكروهًا مثلنا والعديد من قرى الجزيرة، أسألوهم ولينطقوا بالحقيقة إن كانوا يستطيعون كل قرى الجزيرة هذه إلا تلك التي ناصبت القوات العداء؛ جميعها كانت تنال حصتها من الدقيق والعدس والمكرونة، نعم هناك حوادث سرقات حدثت ولكنها كانت معزولة، وتتم من بعض المتفلتين لقليل من المنازل”، ويردف “الجزيرة فيها آلاف القرى ومعظمها كانت تحت سيطرة الدعم السريع، كم هي القرى التي حدثت فيها مشاكل، ثلاثة أربعة، قل عشرة قرى، ماذا تمثل من آلاف القرى التي عاشت وتعايشت مع الدعم السريع”. ويختم حديثه بالقول: “يا عزيزي هناك الكثير من الأكاذيب في هذه الحرب سيأتي اليوم الذي سيكتشفها فيه الناس”.
عالجته بسؤال: لهذا انضم شبابكم كمقاتلين في الدعم السريع؟ فانتفض كل الموجودين في وجهي نافين أن يكون شباب الكنابي انضموا للدعم السريع، وأمسك المنصوري بالحديث قائلًا: “يا ابني إطلاق الكلام بهذه الطريقة فيه مجافاة للواقع، لا يوجد توجه أو توجيه لأبناء الكنابي بالانضمام للدعم السريع، وإن حدث ذلك فذلك تصرف فردي يحسب على فاعله لا المجموع، وإذا نظرت لتشكيلة قوات الدعم السريع قبل انسلاخ أبو عاقلة كيكل، ستجد أن جميع قبائل الجزيرة كانت في الدعم السريع، إضافة إلى الارتكازات التي شكلها وسلحها الدعم السريع من أبناء القرى لحمايتها من “الشفشافة”، ولكن أستطيع أن أقول لك إن أبناء الكنابي حتى في تلك الفترة هم الأقل عددًا في الانضمام للدعم السريع، لأننا لم نكن محتاجين لارتكازات تحمينا من الشفشافة والحرامية، لأن هولاء يعلمون أن في منازلنا لا يوجد ما يسرقونه، فلا رجالنا يمتلكون المال والعربات، ولا للنساء عندنا نصيب من الذهب”.
تعداد سكان الكنابي وفق إحصائيات قامت بها مجموعة من ناشطين سياسيين وحقوقيين من قيادات مؤتمر الكنابي، وبعض المنظمات الدولية الحقوقية، يبلغ 2.373.524 نسمة موزعين على كنابي عددها 2095 كمبو، منتشرة على امتداد محليات الولاية، بينما يبلغ عدد قرى الجزيرة أجمع 1572 قرية، صار إنسان الكمبو مجرد صوت تتهافت عليه القوى السياسية في موسم الانتخابات مقابل وعود لا ترى النور، وكان لابد من وقف هذا التردي ومسح الصورة السلبية والمفاهيم الخاطئة عن إنسان الكنابي، من أجل أن يحتل مكانته الطبيعية في المجتمع مثل سائر التكوينات المجتمعية، والتعامل بالبعد الإنساني مع قضية انسان الكنابي من أجل إزالة الفوارق الاجتماعية المتوهمة وتوفير الحد الأدنى من المطلوبات في الخدمات، كالمياه النظيفة والكهرباء وصحة بيئة وعلاج وتوفير وسائل الانتقال والمواصلات، خاصة في فترة الخريف، حيث يتعذر الوصول إلى المستشفيات في الحالات الطارئة، غير إن ذلك لم يحدث بل أضيف إليه الآن أن وضع بفعل بعض الناشطين غير المسؤولين في عين العاصفة.


الخوف الميسطر:
وفيما تبين من خلال جلستنا مع سكان “كمبو اكس” أن الإحساس بالخوف مسيطر، ويشعرون إنهم الآن باتوا هدفًا وبلا حماية من الدولة في مواجهة قوات مشحونة ضدهم، ومطلقة اليد لا تخشى العقاب. يؤكد الزين النعمة، وهو أحد قيادات المزارعين بمنطقة غرب الجزيرة – امتداد المناقل، عدم حدوث أي انتهاكات في الكنابي ويقول لـ”أفق جديد” قاطعًا بأنه لا يوجد كمبو واحد انتهكت حرمته في امتداد المناقل، ويضيف: “بعد نزوح المواطنين من قراهم هجم بعض سكان الكنابي على المنازل من أجل النهب والسلب، ورغم ذلك فإن عناصر الجيش السوداني التي وصلت إلى مناطق قوز الرهيد، والهدى، والذاكرين لم تعتدِ على سكان تلك الكنابي مطلقًا”. ويزيد: “أنا التقيت عددًا من المقاتلين والمستنفرين، وأبلغوني بأن الكنابي مكدسة بغنائم الحرب الخاصة بالمواطنين، ولكن ليس من شأنهم التحقيق حول تلك الغنائم ومن أين جاءت”، غير أن الناطق الرسمي باسم تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل فاروق رحمة، لا يرى وجود أي ضمانات لعدم تكرار الحوادث التي شهدتها بعض كنابي شرق الجزيرة في مناطق أخرى، مطالبًا الدولة بضرورة التدخل، داعيًا في الوقت ذاته الجهات التى تتحدث باسم مركزية مؤتمر الكنابي، التي يطالب أمينها العام بالتحشيد لحرب ضد سكان الجزيرة، إلى تخفيف التصعيد والجنوح إلى التهدئة.
وقال فاروق رحمة لـ”أفق جديد” أن قضية الكنابي من القضايا المعقدة جدًا من القديم، نسبة لأن علاقات الإنتاج داخل مشروع الجزيرة تم تعقيدها بحزمة قوانين فرضت شكلًا جديدًا من علاقات الشراكة مع العمال المزارعين. وبمضي فاروق رحمة قائلًا لـ”أفق جديد”: “تحالف المزارعين جسم مطلبي، كان يقر ويطالب بحقوق أهل الكنابي قبل الحرب، ولا يزال في موقفه الداعم لسكان الكنابي”، مؤكدًا أن “ما جرى في كمبو طيبة بشرق الجزيرة، وكمبو الشكابة جنوب الجزيرة، يعود إلى أن بالكنابي متعاونين مثلها مثل عدد من القرى، وتم التعامل مع جميع المتعاونين بعنف”.
وبدوره يقول الأمين العام لمؤتمر الكنابي، جعفر محمدين، لـ”أفق جديد” أن عدد الكنابي التي تعرضت لانتهاكات يصل إلى 150، موزعة على مختلف محليات ولاية الجزيرة، ويردف “هذا ما استطعنا أن نحصيه، ولكن العدد غير معروف على وجه الدقة نسبة لانقطاع شبكات الاتصال في معظم المناطق”.
ويضيف: “الانتهاكات متفاوتة بين كمبو لآخر، لكن أفظع تلك الانتهاكات التي تمت تحت سمع وبصر القوات المسلحة ما قام به المستنفرون وقوات كيكل في شرق الجزيرة، والمجازر التي تمت في كمبو طيبة، وكمبو دار السلام الحديبة، وكمبو 16 وحي التضامن في مدينة أم القري والقرية 3”.

غير أن الزين النعمة يعتبر مؤتمر الكنابي واقف بشكل صريح مع الدعم السريع، وبالتالي كل ما يُدلي به من معلومات لا يمكن أخذه على الجدية والمصداقية، ويذهب النعمة إلى القول إن 40 % من سكان الكنابي ينتمون إلى حركة تحرير السودان، بقيادة الطاهر حجر.
ويضيف النعمة: “الجزيرة أوت سكان الكنابي عندما واجهتهم ظروف التصحر والجفاف في العام 1984 والحروب في تشاد. إذا أوى الناس في الجزيرة هؤلاء بذلك الضعف فكيف يتم الاعتداء عليهم الآن؟”. ويقول إن علاقة سكان الجزيرة بأهل الكنابي تخطت أنهم عمال غيط، وأصبحوا أصحاب أملاك وعربات، ويشترون الحواشات ويستأجرون الأراضي الزراعية”.
ويقدم النعمة صورة للعلاقة التي تجمع أهل كنابي بسكان غرب المناقل قائل:ًا “الحياة بين الناس وصلت إلى مرحلة الإخاء والمرح والمزاح، والعلاقات تطورت إلى أن وصلت إلى النقاش في الشؤون الخاصة”. ويقول: “المجرم ليس شرطًا أن يكون من القرية أو الكمبو، والغرض من الفتنة الحالية هي لفت الأنظار عمن دعم (التمرد) وحمل السلاح معه”.
وهي الرواية التي يعارضها حديث كل من التقيناهم من أبناء كمبو خمسة أو طيبة، إذ يقولون إن العلاقة بينهم ومحيطهم ظلت متوترة منذ فترة ليست بالقصيرة، فأبناء الكمبو ظلوا محط اتهام في كل حادثة سرقة أو غيرها من الحوادث في المنطقة، بل منذ عهد النظام السابق ظلت الأجهزة الأمنية تنظر لهم باعتبارهم موالين لحركات دارفور المسلحة. ويقول المواطن عبد اللطيف، وهو واحد من أبناء كمبو خمسة المهاجرين خارج السودان، أن الصور التي تبثها بعض وسائل الإعلام والصفحات المحسوبة على الإسلاميين على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحاول أن تقول من خلالها إن كل شيء على ما يرام هي مجرد تضليل، فالأوضاع في الكنابي جميعها لا كمبو طيبة فقط متوترة وقابلة للانفجار في أي لحظة، وأن المحيط متربص بأهل الكنابي، ودعا عبد اللطيف الدولة لحماية أبناء الكنابي.
ويروي مواطن آخر ما جرى في الكمبو المنكوب خلال الأحداث التي وقعت يوم الجمعة العاشر من يناير، قائلًا: “كنا جميعًا نترقب دخول الجيش إلى مدينة ود مدني بعد أن تواترت الأنباء بسيطرته على منطقة أم القرى، لم نكن نتوقع ما حدث قط، لأن الذى سيطر على أم القرى في تقديرنا هو جيش الدولة، وجيش الدولة هو من يفترض فيه حماية السكان، وإعمال القانون ضد من يرى إنه ارتكب خطأ خلال فترة سيطرة الدعم السريع، ولكن فوجئنا بأرتال من العربات المدججة بالسلاح بعضها يحمل شارات قوات درع السودان تقتحم الكمبو، وتطلق النار بعشوائية وتحرق المنازل، حالة من الهلع سيطرت على السكان وباتوا يهربون إلى غير هدى، عاثت تلك القوة خرابًا في المنازل، قتل على الفور ما لا يقل عن 17 شخصًا بينهم طفلان، تم حرق منزلهم وهم بداخله، وعدد من النساء أيضًا”. ويمضى المواطن الذي نتحفظ على ذكر اسمه نافيًا بشكل قاطع أن يكون هناك مسلحون داخل الكمبو، والدليل رغم أن الهجوم استمر لزمن طويل، لم يطلق أي من مواطني الكمبو رصاصة واحدة تجاه القوات المهاجمة، فقد كانوا عزلًا.
ويضيف: “كانوا يصيحون بعبارات قبيحة ويطالبوننا بأن نذهب إلى مناطقنا الأصلية، بحسب فهمهم، ويرددون الجزيرة ليست دارفور، اذهبوا إلى دارفور، وغيرها من العبارات التي يعف اللسان عن قولها”.
ويعضد الأمين العام لمؤتمر الكنابي، جعفر محمدين، في إفاداته لـ”أفق جديد” ما ذهب إليه السكان من اتهام لقوات درع السودان. ويقول: “درع البطانة أو درع السودان تاريخيًا تأسس بعد اتفاقية السلام، واصلًا تأسيسه تم ضد سكان الكنابي، وهنالك أدلة عديدة على ذلك”. وطبقًا لمحمدين إن قائد درع السودان كيكل، في العديد من المؤتمرات كان يتهم أبناء الكنابي بالانتماء للحركات المسلحة، بل تحدث عن تسليح أبناء الكنابي بواسطة الحركات المسلحة، وهذه كلها كانت محاولات منه لشيطنة أبناء الكنابي ومن ثم ضربهم. للأسف، كيكل كان مستهدفًا مجتمعات الكنابي بالسودان منذ تأسيس الدرع البطانة.
ويضيف: “للأسف كيكل حتى عندما كان مع الدعامة، كان يرتكب القتل تجاة سكان الكنابي بدعوى موالتهم للدعم السريع، وهو من روج لهذه الفكرة وكان نتاجها ما يجري الآن من تصفيات لهولاء البسطاء العزل، الذين قدموا حتى الآن أكثر من 100 شهيد، وهناك 120 مفقود لا يعلم مصيرهم، هذا ما استطعنا إحصاءه وهناك العديد من الكنابي فقدنا تواصلنا معها ولا ندري ما الذي جرى بشأنها”.
ويقول محمدين: “هنالك نزوح كبير جدًا من القرى والكنابي، بالذات تلك التي في مواجهة محاور القتال. جزء منهم نزح إلى المناقل، وإلى القري الكبيرة في شرق مدينتي الفاو وحلفا الجديدة بأعداد كبيرة جدًا، في أوضاع سيئة جدًا، يفتقدون أدنى مقومات الحياة في ظل فصل الشتاء”.
ولا تختلف إجابة محمدين بشأن انضمام أبناء الكنابي للدعم السريع عن ما أدلى به سابقوه من السكان وهو يقول: “هذا الحديث عارٍ من الصحة وغير صحيح، الغرض منه ضرب إنسان الكنابي وقيادات مركزية مؤتمر الكنابي، هناك خطابات مضروبة تم الترويج لها من قبل دولة النهر والبحر بقيادة عبدالرحمن عمسيب، للأسف هنالك بيانات كثيرًا جداً تم النفي ولكن ظلوا يروجون لهذا الخطابات المضروبة. هذا الهجوم يعكس مدي الحقد والكره تجاة مكونات الكنابي، ونحن في مركزية مؤتمر الكنابي نحمل مسؤولية الأحداث للذين روجوا هذه الادعاءات الكاذبة بقيادة بعض النشطاء المحسوبين على المشتركة، فالكثير منهم روج لهذه الأكاذيب قبل الأحداث، فهم أيضًا جزء من تلك الجرائم التي تمت”.

بصمات داعش:
وتنقل عضوة “محامو الطوارئ”، رحاب المبارك، القضية إلى محاميل أخرى، إذ تؤكد أن الذي جرى في الكنابي ومدينة ودمدني منذ العاشر من يناير الجاري، يكشف وبجلاء إن ما كان يتردد عن وجود لتنظيم داعش في الحرب الحالية لم يكن مجرد تكهنات، وإنما هو واقع ملموس، وتقول رحاب لـ”أفق جديد”: “إن ما جرى عقب دخول الجيش إلى مدينة ود مدني، وبالأخص في كمبو خمسة طيبة، هو جريمة تتوفر فيها كل عناصر التطهير العرقي. القصد الواضح من الجريمة هو التخلص من مجموعات سكانية يعتقد من ارتكب الجريمة إنها كانت تشكل له مصدرًا للازعاج، وأصبح ضحية لهذه الجريمة العشرات من الناس”.
وتضيف رحاب: “لا يوجد إحصاء دقيق لضحايا كمبو خمسة طيبة، ولكن ما استطعنا توثيقه بالأسماء هو 23 شخصًا بينهم طفلان، وعدد من النساء، قتلوا حرقًا”.
وتقول عضوة “محامو الطوارئ” في إفادتها لـ”أفق جديد”: “لم تكتفِ القوات التي دخلت إلى مدني بجريمة كمبو خمسة، وإنما وسعت انتهاكاتها في كل منطقة دخلتها في الجزيرة، خاصة مدينة ود مدني، التي شهدت تصفيات واسعة، واستطعنا توثيق 15 فيديو شملت جرائم فظيعة من الذبح وقطع الرؤوس وبقر البطون، وهناك العديد من المفقودين الذين لا يعرف مصيرهم بعد أن اعتقلتهم القوات”. الجرائم – طبقًا لرحاب – ليست قاصرة على الكنابي فقط، وإنما الكثير من سكان المدينة الذين لم يستطيعوا الخروج تعرضوا للتنكيل الفظيع من قبل كتائب الحركة الإسلامية البراء بن مالك وغيرها، إلى جانب درع البطانة وتنظيم “داعش”.
وتمضي إلى القول: “قبل دخول مدينة ودمدني نشرت بعض القوائم باعتبارهم مهددين بالتصفية، وكنا حينها بين الشك واليقين من صدقية تلك التهديدات وجديتها، غير إن الوقائع بعد ذلك أكدت جدية تلك التهديدات، حيث ثبت أن التصفيات التي تتم وفقًا لتلك القوائم، إذ تم إعدام 3 من أبناء المدينة، شقيقان وابن خالهم، ووجدناهم يحملون الأرقام 9، 12، 15، بالإضافة إلى ثبوت تصفية الشخص الأول في القائمة المتداولة”، وهذا يدلل – طبقًا لرحاب – على أن الحركة الإسلامية تقوم بتصفية خصومها.
وتقول رحاب: “الجميع شاهد عشرات الفيديوهات، وشخصيًا وصلني ما لا يقل عن 15 فيديو كلها تؤكد انتهاكات قامت بها كتائب الإسلاميين الدواعش، وكتائب البراء من جرائم فظيعة شملت القتل والذبح وبقر البطون، إضافة إلى قطع الرؤوس هذا كله تم في الأسبوع الماضي، وهناك مجموعات كبيرة جدًا تم اعتقالها وضربها، وهناك مجموعات يعتقد أنها تمت تصفيتها.. هذه الجريمة لم تطل من هم في الكنابي فقط، هناك مجموعات كبيرة من الموجودين في مدني تمت تصفيتهم”. وتواصل رحاب قائلة: “هناك جرائم فظيعة جدًا ارتكبتها كتيبة درع السودان التي تتبع لكيكل، وهذه الكتيبة نكلت بشكل فظيع بالمناطق حول أم القرى”.
وتؤكد رحاب في إفادتها أن تنظيم داعش موجود وظهر بشكل واضح في جرائم مدني، وتشدد أنها لا تعني أن الجرائم التي ارتكبت تحمل طابع تنظيم داعش، وإنما وجود فعلي للتنظيم.
بوكس

حقول ألغام
كشفت عضوة “محامو الطوارئ”، رحاب المبارك، أن الدعم السريع ارتكب جريمة جديدة في الجزيرة، وقتل العشرات في أم الخيران، بعد هجومه على هذه القرية، كذلك ارتكب الدعم السريع جرائم بزرعه لمجموعة من الألغام في طريق الفاو مدني، خصوصا في الكباري، وهناك عدد من السيارات التي وقعت في حقول ألغام أولها عربة بوكس قتل فيها خمسة أشخاص عند كوبري الشريف يعقوب، فالدعم السريع زرع الألغام في المنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى