أشباح “أدري” وكوابيس “أردمتا”
الجنينة – علاء الدين بابكر
العائدون من الحرب دائمًا ما يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة؛ هذا ما وقع بالضبط على المواطن “جمال أحمد” (36 عامًا)، من مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور. يقول (جمال) -وهو اسم مُستعار لدواعٍ أمنية وإنسانية- في حديثه لـ”أفق جديد”: “الظلم أوصلني لهذه المرحلة”. يقيم جمال حاليا في إحدى مخيمات النزوح بمدينة “أدري” التشادية، بينما قالت والدته: “وجدناه بعد أن بحثنا عنه في أماكن كثيرة.. حالته كانت سيئة لكنها تحسنت بعد أن تناول العلاج، لكن ساءت حالته مرة أخرى بعد وصولنا إلى أدري”.
وأضافت: “بعد وصولنا إلى مخيم النازحين لم يتناول ابني العلاج، لكن نحمد الله على ابتعادنا من أصوات الدانات والذخائر”.
فيما قالت شقيقة المريض، شيماء أحمد، المنحدرة من حي “المدارس” بمدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، لـ”أفق جديد”: “فقدت والدتي وشقيقي الأكبر إثر أحداث مدينة الجنينة.. أسرتي مكونة من 7 أفراد، احترق منزلي، وضُرب شقيقي بطلق ناري على رأسه”.
وأضافت: “الظروف المادية أوصلت شقيقي إلى تلك الحالة بعد اختفاء والدي بسبب الحرب. سبق وأن عرضنا شقيقي على طبيب بمستشفى التجاني الماحي في العاصمة الخرطوم عن طريق علاقات والدتي التي كانت تعمل طباخة في منزل الوالي”. وتابعت: “بعد وصولنا إلى أدري أصبح شقيقي ميالاً إلى العُنف.. هربنا من المنزل خوفًا من مواجهته، وحاليًا قُيد بالجنازير”.
وتسترسل بالقول: “داخل المعسكر لم يتلق شقيقي أي خدمات علاجية، لكننا عرضناه على طبيب في مستشفى (أم خروبة) في العاصمة تشاد، على نفقتنا الخاصة. الطبيب أعطاه حبوب علاجية، لكن حالته الصحية لم تتحسن وساءت بعد تناولها”.
حالات أخرى
تقول شقيقة المواطن “محمد عبد الله” (40 عامًا) وهو اسم مستعار لدواع إنسانية، لـ”أفق جديد”: “شقيقي الذي أصيب في العام 2004 إثر أحداث دارفور التي اندلعت في 2003، عنيف جدًا، ويمر بحالات عصبية حادة من حين لآخر، ولم تقدم له أي خدمة علاجية منذ قدومنا إلى المعسكر في مدينة أدري التشادية. وحالته الصحية أثرت على الأسرة، فنحن بالأساس لا نملك القدرة المالية لأساسيات الحياة ناهيك عن العلاج”.
كما أفادت شقيقة المواطن، “صالح يوسف” (34 عامًا) وهو اسم مستعار أيضًا؛ وينحدر من منطقة “اردمتا” وهي وحدة إدارية تتبع لولاية غرب دارفور، إن شقيقها الأصغر أصيب إثر المعارك التي دارت في محلية “كُلبس” التي تقع في الشمال الأقصى لولاية غرب دارفور.
وأضافت في حديثها لـ”أفق جديد”: “تدهورت حالة شقيقي الصحية بسبب الأحداث الأخيرة في محلية أردمتا، وليس لدينا القدرة المالية لتأمين تكاليف العلاج”.
وعن محاولات الأسرة في توفير العلاج قالت: “جربنا العلاج البلدي ولكنه لم يكن نافعًا، وحاليًا يستعمل الحقن المُهدئة بمعدل حقنة شهريًا وفي حالة عدم استخدامها يعتدي على المارة في الشارع ويرميهم بالحجارة والألفاظ الجارحة”.
وعزت حالة شقيقها إلى الحروب التي شهدتها المنطقة. وأضافت: “أُصيبت عينه اليُمنى بالتلف إثر تعرضه للضرب في الشارع.. عجزنا عن توفير الدواء وقمنا بتقييده لأنه إذا اعتدى على أي شخص في الشارع أو في المُخيم فإن أهله مسؤولون عن أي تصرف سالبة يرتكبها المريض”. ومضت قائلة: “حالنا يغني عن السؤال؛ فابنتي مريضة بالأنيميا (فقر الدم)، وأختي هي الأخرى مصابة أيضًا بمرض نفسي بجانب شقيقي”.
وعن الجهات التي وصلتهم في معسكرات النزوح لمعرفة أوضاعهم قالت:” زارتنا منظمة أطباء بلا حدود في المعسكر لكنهم لم يقدموا لنا أي خدمات علاجية”.
أما المواطن، “عاصم دفع الله”، وهو اسم مستعار لدواع إنسانية، قال لـ”أفق جديد”، “أصابتني حالة نفسية لكن حاليًا حالتي مستقرة ولدي دواء استخدمه صباحا ومساء. أصبت في رمضان الماضي أثناء الأحداث التي شهدتها مدينة الجنينة. عانت أسرتي معي داخل المخيم في منطقة أدري وكنت اضربهم واسبهم لكنهم قيدوني بالحبال”.
وعن محاولات علاجه قال: “استخدمت الحقن والحبوب وكنت أتابع مع طبيب اسمه سيف الدين في مدينة الجنينة؛ لكن حالتي ساءت بعد أحداث اردمتا”. وأضاف: “لم أتلق أي علاج منذ وصولنا إلى تشاد”.
وأجبرت الحرب ملايين السودانيين على مغادرة وطنهم ومساكنهم ما بين نازح ولاجئ ومشرد وكان نصيب دولة تشاد نصف مليون لاجئ احتضنتهم وخصصت معسكرات للإقامة فاقت الـ 10 حول مدينة “أدري”.
وحسب تقديرات الامم المتحدة فإن عدد اللاجئين بلغ 650 ألف منذ اندلاع الحرب في دارفور، في العام 2003.
وتعرض اللاجئون قبل قدومهم إلى تشاد من مناطق دارفور المختلفة إلى دوي المدافع والدبابات والذخائر بكل أنواعها وعاشوا لحظات رعب عصيبة أدت إلى صدمات نفسية لمعظم اللاجئين، وامتلأت أكواخهم بمئات المرضى النفسيين.
كما تحملت الأسر معاناة المرضى وعدم القدرة علي توفير العلاج والغذاء والسكن وتحملت التصرفات العنيفة ضد الأسر والمحيط الاجتماعي، مما أجبر الأسر على تقييد المرضى بالجنازير والحبال خوفًا الاعتداءات الجسدية والعنف اللفظي.
ويقول الطبيب النفسي، أمين الناجي جفنة، لـ”أفق جديد”: إن الحروب لها أثر كبير على الصحة النفسية عمومًا”، مشيراً إلى أن هناك تفاوت في درجة المعاناة والآثار النفسية الناتجة عن الحروب. وأضاف، “لا توجد آلية للتقصي للوصول إلى عدد الحالات، وذلك لعدة أسباب منها شح الموارد والكوادر العاملة في خدمة الدعم النفسي”.
وتابع، “سعينا لتوحيد الآليات في الاجتماعات المتخصصة للوصول إلى عدد المرضى، وفشلنا وذلك لعدم وجود تواصل مع معسكرات اللجوء”.