صيغ النص المسرحي في السودان

السر السيد
قراءات ذات بهجة

 سأنظر للنص المسرحي بحسبانه عنصرًا من عناصر العرض المسرحي وذلك من خلال الصيغ التي تجلى بها في سياق تطوره، كالاقتباس والتعريب والترجمة والإعداد والسودنة والتأليف (الأصيل) – الكتابة والارتجال- التي أري أنها لا تزال تشكل الخريطة التي يتحرك فيها، مما يعني أن صيغ الاقتباس أو التعريب أو السودنة لم تكن بسبب ضرورات البداية فقط، وإنما لأسباب تتعلق بالكتابة نفسها كشكل إبداعي وضمنًا الكتابة المسرحية، فالتجربة السودانية تشير إلى أن البدايات الأولى استخدمت “الارتجال” كصيغة لصناعة العرض، كما فعل الشيخ بابكر بدري 1903، أو “الكتابة” كما فعل مأمور القطينة عبدالقادر مختار عندما كتب مسرحية (المرشد السوداني “نكتوت” 1910″)، وهو ما يعني أن البدايات الأولى للنص المسرحى فى السودان بصيغتيه التى تبدى بهما وهما الارتجال والكتابة لم تتمخض عن صيغ الاقتباس أو التعريب أو الترجمة أو السودنة، كما سيحدث لاحقاً.

سنلاحظ ونحن نتصفح تاريخ النص المسرحي في السودان أن المؤلف السوداني لا يظهر بعد 1903م، إلا في العام 1913م مع مسرح كلية غردون، ومع مسرح نادي الخريجين في الفترة الممتدة من 1918م إلى بدايات الثلاثينيات، وكما هو معلوم أن هذه الفترة شهدت حراكًا فكريًا وثقافيًا وسياسيًا وتبلورت فيها الحركة الوطنية، وشهدت نهوضاً في الكتابة الأدبية وبرز فيها المسرح كنشاط فعّال وكأداة من أدوات المقاومة، فطفقت هذه النخب وبسبب من امتلاكها لناصية اللغة الإنجليزية تنهل من الثقافات الأخرى، فكان معظم ما تعاملت معه على صعيد النص المسرحي إما مقتبساً أو معرّباً أو مترجماً أو عربياً صرفاً، كمسرحيات “يوليوس قيصر، وعطيل، ووفاء العرب ومجنون ليلى” وغيرها.

عند هذا المعطي يفوت على أكثرية من الباحثين في تاريخ النص المسرحي في السودان وسيرورته، التوقف عند وجود التأليف “الأصيل” جنبًا إلى جنب مع الاقتباس والتعريب والترجمة، ودليلنا هنا نص “الابن العاق”، ونص “المأمور والمفتش ورجل الشارع” للأستاذ عبيد عبد النور (1896_1963). كما يفوت عليهم كذلك تلمّس التأثير على مسيرة وسيرورة النص المسرحي الذي تركته دعوة النقاد ورواد الحركة الفكرية الي ضرورة العناية بالبعد القومي في الثقافة والأدب والفن، ليعود التأليف “الأصيل” مرة أخرى مع الأستاذ خالد أبو الروس في مسرحية “مصرع تاجوج ومحلق” (1933).. هذه المسرحية التي كتبها أبو الروس بـ”الشعر القومي”، وهي المسرحية التي يعدّها كثيرون بمثابة النص المؤَسِس ويعتبرونها أول نص سوداني تم تأليفه، اعتقادًا منهم أن ما سبقها ليس نصًا سودانيًا بسبب أنه إما مقتبس، أو معرب، أو مُترجم، أو مسودن، أو كتبه شخص غير سوداني كما في حالة مأمور القطينة، “مصري الجنسية”، وهذا تعسّف يقفز على بعض الحقائق، فهو مثلًا لا يعترف بالنص الذي ألفه بابكر بدري عبر صيغة الارتجال، ولا بالنصين اللذين ألفهما عبيد عبدالنور، ولا بالسودنة كنوع من التأليف، ولا بالنص الذي ألفه مأمور القطينة بحجة أن المؤلف غير سوداني، مع إن النص يناقش موضوعًا سودانيًا وينهض على قاموس سوداني يزاوج بين واحدة من عاميات السودانيين والعربية الفصحى.

مع دخولنا فترة الأربعينيات وما عُرف بمسرح (بخت الرضا)، يعود الاقتباس، وتعود الترجمة، ويعود الإعداد والسودنة كما في “شكسبيريات” د. أحمد الطيب أحمد، وترجمات جمال محمد أحمد إلاّ أن الاختلاف هنا هو أن هذه العودة قامت علي جهد سوداني خالص.

هذه العودة للاقتباس والترجمة والتعريب والسودنة ومع وجود النص المسرحى السوداني “الاصيل”، لم تفرضها- في التجربة السودانية، كما أشرنا- إكراهات حداثة التجربة أو ندرة النصوص – وإنما فرضتها ضرورات تتعلق بالكتابة الإبداعية وتحديداً الكتابة المسرحية، مما يشير إلى أن النص المسرحي في السودان وإن كان لا يدين في بداياته للاقتباس أو الترجمة أو التعريب أو السودنة كصيغ لصناعة العرض، إلاّ أنه جعل الاقتباس والترجمة والتعريب والسودنة من ضمن الصيغ التي ينهض عليها، لا في مرحلة البدايات فقط وإنما في كل مراحله، فالاقتباس والترجمة والسودنة لم تكن جسراً يعبر من خلاله النص إلى أصالته ولم تكن منصةً ينطلق منها إلى سودانيته أو خصوصيته، وإنما كانت اختباراً يشعل القلق في صناع الظاهرة المسرحية المحكومين بالضرورة بسياقات جمالية، وسياسية، وثقافية، واجتماعية، متداخلة، فكان قلق البحث عن اللغة المناسبة للكتابة المسرحية، أهي العامية أم الفصحى أم “الشعبية”؟ وكان قلق البحث عن الموضوعات والقضايا، وكان قلق البحث عن مصادر أخرى للكتابة غير الواقع المعيش، بل كان قلق البحث عن طرائق التلقي المناسبة.

هذا القلق الذي بدأ بسؤال الكتابة/ النص، كان قلقاً جماعيا طال المخرج والممثل وحتى الناقد ولم أقل المؤلف على الرغم من أهميته وذلك لأنه في الغالب قد يكون هو المخرج نفسه.

أشير هنا إلى أن سيرورة النص المسرحي وهي تستقى من هذه الصيغ المتعاقبة والمتزامنة والمتجاورة التى تبدو كلها كخيارات متاحة لتخلق النص المسرحي لم تقرأ في الغالب بالشكل المطلوب لا في السودان ولا في غيره من البلدان العربية، وذلك بسبب هيمنة النظرة الشمولية للمسرح فجل كتاباتنا في التأريخ للمسرح أو النقد تلج من باب العرض والعنصر المهيمن فيه، دون البحث في العناصر الأخرى غير المرئية، ولعل وبسبب هذه النظرة سادت العديد من المسلمات في دراساتنا المسرحية ومن ضمنها جعل (وافدية) المسرح سبباً في عدم تغلغله في نسيج حياة الجماهير، أو تهميش المؤلف في العرض المسرحي وكأنه تهميش للنص، أو تصوير الاقتباس أو الإعداد وكأنه ليس تأليفاً ( وطنيًا).. هذه النظرة، تنظر إلى المؤلف وإلى النص وكأنهما شيء واحد، وتنظر إلى وضعية النص في العرض المسرحي ووضعيته خارج العرض المسرحي وكأنهما شيء واحد، وهي نظرة لم تكن دقيقة بما يكفي كما أرى.

النص في المواسم المسرحية:

للتأكيد على ما ذهبت إليه في أن كل هذه الصيغ للنص المسرحي، (اقتباس، ترجمة، تعريب، سودنة) في التجربة السودانية تتجاور مع ما يعرف بالتأليف الأصيل “كتابة وارتجال”، سأتوقف عند النصوص التي قدمت في المواسم المسرحية في المسرح القومي السوداني في الفترة من 1967 إلى 1978.

سنجد أن خريطة النص المسرحي كانت كالآتي:

*/”46″ مسرحية سودانية من نوع التأليف الأصيل.

*/”7″ مسرحيات مسودنة من المسرح العربي والأفريقي والأجنبي.

*/”6″ مسرحيات عربية.

*/”7″ مسرحيات أجنبية معربة أو مترجمة.

*/مسرحيتان أفريقيتان بترجمة لأدباء سودانيين.

هذه الإحصائية تشير إلى حضور الترجمة والإعداد والسودنة جنبًا إلى جنب مع التأليف الأصيل، مع تأكيدنا على أن الإعداد والسودنة والترجمة كتابة ثانية لها هويتها الهجين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى