الموقف المكلف

عندما يسيطر ضجيج المعارك ويعلو صوت البنادق، يكون أسهل الخيارات هو الانخراط في الحرب أو الصمت عنها، لكن الصعب والمكلف حقًا هو الوقوف على الضفة الأخرى، والإصرار على أن الحل لا يكمن في السلاح بل في السياسة. هذا هو التحدي الذي تواجهه تنسيقية تقدم اليوم، ما يجري اليوم داخل تقدّم ليس مجرد تباين طبيعي في وجهات النظر، بل محاولة لجرّ التحالف بأكمله نحو خيارات لم تكن جزءًا من رؤيته عند التأسيس. إن تغير التقديرات السياسية للأفراد أو المجموعات أمر مشروع، وهو حق لا يمكن سلبه، لكن غير المفهوم هو الإصرار على فرض سياسة الأمر الواقع على مكونات التحالف، وإجبار الجميع على تبني موقف يفارق المسار الذي توافق عليه التحالف منذ البداية.
في فضاء الحرب، حيث تصير المزايدات والتخوين سلاحًا في حد ذاته، لم يجد بعض من نصبوا أنفسهم مصححين للقوى المدنية خطرًا في تحويل المواقف المبدئية إلى موضع تهكم وسخرية، ظنًا منهم أن التشويه سيغطي على عجزهم. فبدلًا من مساءلة القوى التي خاضت الحرب وانخرطت فيها بصورة أو بأخرى، اتجهوا إلى استهداف من رفضوا الانجرار وراءها، وظلوا متمسكين بموقفهم رغم كل الضغوط.
إن ما يجعل موقف تقدم المناهض للحرب، والرافض لمنح الشرعية لأي طرف فيها، موضع استهداف مستمر، هو أن مؤيدي الطرفين باتوا غارقين في دعم الحرب، ويحتاجون لتبرير مواقفهم من خلال شيطنة الأصوات التي اعتزلت فتنة الحرب واختارت السعي للسلام طريقاً لها. فالحرب لا تقبل سوى من يُشعلها أو يصمت عنها، بينما موقف أغلبنا في تقدم كان وسيظل منحازًا لوحدة السودان وسلامه، عبر الحلول السياسية لا الرصاص، لا يمكن للسودان أن يخرج من هذا النفق الدموي إلا عبر حل سياسي شامل، يؤسس لسلام مستدام، بعيدًا عن منطق الغلبة والإقصاء. وهذا الحل لن يتحقق إلا في ظل جيش وطني واحد، جيش وطني واحد ينأى عن السياسة والاقتصاد ولا تستغله فئة حزبية كسلم لتحقيق غاياتها السلطوية، يؤدي دوره في حماية الدولة لا في تقويضها.
أخطر ما في هذه المرحلة هو الانزلاق نحو استسهال العنف، بحيث يصبح القتل أمرًا عاديًا، والاستقطاب مسوغًا لتبرير الفظائع. إن المجازر التي ترتكب يوميًا، وانتهاكات حقوق الإنسان التي باتت واقعًا مألوفًا في السودان، لن تنتهي بمجرد انتصار طرف على آخر، بل ستؤسس لدورة طويلة من الثأر والدمار ما لم يتم قطعها بحل سياسي حقيقي، يقوم على العدالة الانتقالية والمحاسبة، لا على منطق الغلبة والسلاح.
مهما حاول البعض تشويه هذا الموقف، فهو ليس جديدًا، ولن يكون موضع مساومة. خيارنا هو السلام، وهو أصعب الخيارات، لكنه الأجدى، لأنه الخيار الوحيد الذي يحفظ ما تبقى من السودان.