ثلاثية العنف والإرهاب وطمس الحقائق

كان يوم أمس خير شاهد على نسق المنظومة الأمنية على مدى عقود من الظلم والاستبداد، عمّقته تجربة نظام حكم الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني المخلوع. ثلاثة شواهد تؤكد استبدادها وفسادها:
أفادت لجان مقاومة أبو قوتة بأن أفرادًا من الدعم السريع تناوبوا على اغتصاب سيدة حتى فارقت الحياة، وهي جريمة بشعة ومدانة، وهي تكرارٌ لنسق متصل من إذلال الناس، شرعنت له الحركة الإسلامية في حروبها التي خاضتها في أجساد السودانيات.
والدلائل على أن هذا النسق من الجرائم ممنهج لا تُحصى، وأهمها ما ذكره د. حسن الترابي عن أن البشير تهكم على جرائم الاغتصاب في دارفور متسائلًا: “أهو شرف أم جريمة؟”. وهنا لا ننسى اغتصاب الفتيات أسفل كوبري المسلمية في الخرطوم في نهاية أحد مواكب مقاومة انقلاب 25 أكتوبر، وهو موثق لدى مفوضية العنف ضد المرأة.
لن تستطيع القوات المسلحة أن تجعل الدعم السريع يسير وحده في هذا المسار، فبالأمس شاهدنا فيديو لجريمة بشعة ارتكبها عناصرها، حيث قتلوا شخصًا يرتدي زيًّا مدنيًّا رميًا بالرصاص أمام الناس، تكرارًا لمشاهد شوهدت في عدد من المناطق التي وصلت إليها القوات المسلحة في الحلفايا وأمبدة ومدني وغيرها. وهي جريمة بشعة تُضاف إلى سلسلة الجرائم التي أدمت قلوب السودانيين، التي سيكون لها آثارها على السودان والمجتمع السوداني بلا شك.
الفيديوهات التي يظهر فيها عناصر من القوات المسلحة وهم يهددون المدنيين كثيرة، وتكرارها جعلها تتجاوز كونها مجرد أخبار تتناقلها وسائل الإعلام. بالأمس، وأمام مراسلة قناة العربية الحدث في السودان، هدد أحد أفراد القوات المسلحة مواطني أحياء الحاج يوسف بالذبح، ولم يثر هذا الأمر استهجانًا إلا بسبب تكراره المستمر.
أما من ظهروا في فيديو القتل البشع بالأمس وهم يربطون الأقمشة الحمراء فوق رؤوسهم، فهم يريدون إرسال رسالة إلى الشعب السوداني بأنهم قد عادوا بوحشيتهم ودمويتهم وإرهابهم، في تذكير واضح بساحات الفداء، وهي إحدى سمات عناصر الحركة الإسلامية من المجاهدين في تسعينيات القرن الماضي. إن عملية القتل التي شاهدناها بالأمس كانت بشعة وتشبه إرهاب هذا التنظيم الإجرامي، ومن بشاعتها يصعب وصفها. وتأكيدًا على أن عصابات هذا التنظيم لن تتوقف إلا بتمزيق البلاد أرضًا ووجدانًا.
بالأمس كان الموعد النهائي الذي حددته لجنة تقصي الحقائق في أحداث “كمبو طيبة”، كما سُمّيت، وإن كانت أحداث العنف قد شملت مناطق عديدة في ولاية الجزيرة التي وصلت إليها القوات المسلحة. لكن من المؤكد أن اللجنة لم تخرج بأي تقرير، إذ نعلم منذ تكوينها أنها لجنة صُمّمت لطمس الحقائق وليس كشفها. كيف لا، ورئيسها وكيل النيابة ياسر بخاري هو نفسه من قدّم إحدى ثائرات ثورة ديسمبر للمحاكمة بعد أن ألقت عليها الأجهزة الأمنية القبض، وكان “دليله” ضدها أنها تحمل علم السودان! نعم، هو نفسه المسؤول عن لجنة تقصي الحقائق، فمن ينتظر من ياسر بخاري تقريرًا؟!
إن ثلاثية العنف والإرهاب وإخفاء الحقائق هي نسق ممنهج لنظام حكم استمر ثلاثين عامًا. فقد كان العنف يُمارَس ضد المدنيين في المواكب من خلال القتل والضرب والسرقة على يد أفراد المنظومة الأمنية، وفي أقسام الشرطة كان يُسمع صراخ المعتقلين وهم يُعذبون، بينما يجلس وكلاء النيابة والقضاة في المكاتب المجاورة يتسامرون!
أما عملية إخفاء الحقائق، كما هو الحال مع لجنة وكيل النيابة (ياسر بخاري)، فهي تأكيد للمؤكد: لن تخرج بأي شيء، ولن تقدم متهمين للعدالة، بل ستعمل على طمس كل الأدلة. ففي ثورة ديسمبر، كانت سيارات جهاز الأمن تجوب الشوارع بلا لوحات، وأفرادها ملثمون، ليس اتقاءً للبرد أو حرارة الشمس، بل لإخفاء هوياتهم أثناء قتلهم للثوار والثائرات.
وتأكيدًا على أن هذا النسق ممنهج، كان أفراد شرطة المرور يفسحون لهم الطريق، رغم أن القانون يمنع مرور أي سيارة بلا لوحات، لكنه تواطؤ المنظومة الأمنية ضد المدنيين، بجيشها ودعمها وشرطتها وجهاز أمنها وبعض وكلاء النيابة والقضاة، الذين تحولوا إلى أدوات لمسح قاذوراتها. وهنا نقول “بعض” فقط، لأن المنظومة الأمنية تأتمر بأوامر قادتها، بينما الأجهزة المدنية والعدلية يُفترض أن تحتكم إلى ضمير منتسبيها.