مسرحية وادي أمسدر

السر السيد
السر السيد

السر السيد

تمثّل مسرحية وادي أمسدر وثيقة فنية ناصعة للنزوح وتأثيراته الكبيرة. المسرحية من تأليف الكاتب الكبير محمد خوجلى مصطفى، وأخرجها على خشبة المسرح القومى المخرج حسبو محمد عبدالله في العام 1980م. تتكون المسرحية التي كتبت عام 1976م من ثلاثة فصول. تدور أحداث الفصل الأول في وادي

 “بوحات”، من خلال شخصيات “ود إسيد، وزوجته بخيتة، وابنه أحمد، والكندو “شيخ البلد” وموظف الحكومة “المتحصل”. في هذا الفصل نتعرف على الوضع العام في وادي بوحات والوديان المجاورة له حيث أن نذر كارثة الجفاف قد بدأت إرهاصاتها فها هي أحلام اليقظة بهطول المطر تراود ود إسيد وزوجته بخيتة وها هو ود إسيد يلح على ابنه أحمد في وجوب بيع ما تبقى من مواشيهم.

ود إسيد: – ضاحكاً في سخرية – المعنى آبخيتة عندك نية في خريفاً سحابو رابط في سماهو ليلو ونهارو.

بخيتة: دا مناي أب جناي.

ود إسيد: ومطره يسيل بي مجاري وديانو بالروي والوديان ترجع لي عافيتها آبخيتة.

بخيتة: خشمك فيه اللبن.. خشمك فيه اللبن.

نذر الكارثة هذه التي تعجّل بالرحيل تكتمل ويتم الرحيل بالفعل عندما يصل موظف الحكومة “المتحصل” لأخذ ضريبة المواشي من ود إسيد في اشارة للدور السالب للحكومة، فهي لم تظهر إلا بعد أن فقد سكان الوديان كل شيء ولأن ود إسيد لم يعد يملك ضريبة المواشي يسلمه المتحصل أمرًا بالحضور والمثول أمام المحكمة.

ود إسيد: رضيت بالشقا والودار، وشراب موية الخيران وبي مسك الجمر في حر الصيف، وبالجوع في عز االشتاء، وبي المحل في زمن المطر وهَمْ تاني جاييني للمحكمة.

بخيتة: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله أب جناي.

ود إسيد: أنا آبخيتة.. ما كفاي محكمة الخلا ام سموماً بتَقْرُش في عضامي الليل والنهار.

بخيتة:- تدنو منه في حنية – استغفر أب جناي واطرا خالقك.

ود إسيد: -فى حزم- بخيتة خلاص لملمي حالك ونستعد للقيام.

أما الفصل الثاني فتدور أحداثه في فريق وادى أم سدر، من خلال شخصيات حماد، وزوجته فاطمة، وابنته الفرهيد، وعلي، وشقيقته تم الريد، وعائلة النديانة.. في هذا الفصل نقف على تجهيزات أهل الفريق وشروعهم في عملية الرحيل ونتعرف أثناء هذه الاستعدادات على الفرقان التي سبقتهم بالرحيل وعلى ذكرياتهم وخوفهم من الرحيل وعلى العشق الذى يربط بين الفرهيد وأحمد وبين على والنديانة.. في هذا الفصل تتكشّف صلات القربى والثقافة والهم المشترك بل والمصير المشترك بين هذه الأودية وهذه الفرقان، إذ يتضح لنا أن هذا الرحيل أو هذا النزوح كان قراراً وقدراً جماعياً فرضه المَحَل الذي بدأت نذره في تلك الرقعة الجغرافية.. في هذا الفصل نقف على الكيفية التى يتأنسن بها المكان ويضحى موضوعاً للفقد والوله والشوق والحنين فهذا الفصل مشحون بالغناء المرتبط بالعشق والأرض والنواح .

النديانة: يعني آ الفرهيد وكت تغني غناك يبقى نواح.

الفرهيد: -في حزن- النواح إياه حالنا طالما عبّينا القيام من أم سدر.

تم الريد: وعاد شِن نسوى آ الفرهيد؟. القيام مو ياهو مُشْهاد حياتنا.

الفرهيد: إلا قيامنا دا ما فيه رجعة.

النديانة: دا فال شنو آ الفرهيد؟

تم الريد: فال الخير أخير آ الفرهيد.

الفرهيد: شن الفال اخواتي في قيام النجيع البعقبو الطشاش دا؟

النديانة: ابْكَن للخيام البلملمو فيهن ديل؟

الفرهيد: زمان آخواتي رحيلنا بالحنية.. علّ هسع بشوف الخيام اوتادها اتقلعت.

ويمضي هذا الحوار الشفيف وهذا الغناء المسلح بالعشق والحنين والارتباط بالأرض بين الفتيات .

النديانة: وشوفي رمال الوادي بهرجت كيفن متل القزاز المهروس.

الفرهيد: صدقتي آ النديانة الليلة الوادي قزازو انكسر وانهرس وادفق الحنين الفيه.

تم الريد: كدي الرسول تعالي النسأل القمرة دي نشوفها شن بتقولينا؟

النديانة: آه يا القمرة.

الفرهيد: يا حليل سعيتنا ويا حليل خلاهن

     الفارقن ليمو وفارقناهن

     كيفن تانيى نسعاهن

والمحل كتل جناهن      

النديانة: مالك آ الفرهيد بتدوري دموعنا تسيل.

الفرهيد: غنن بيها آبنوت اياها البنطرا بيها السعية .

تم الريد: حليل خلانا أب رهود .

الفرهيد: وحليل وادينا اب سدود.

نديانة: الشي آ أخواتي بتدورن تبكن الفراق قبل النجيع ؟ النواح خلنه لي وكتو.

وهكذا وعبر هذا الوجد واستدعاء ذكريات المكان وحكايات العشق عبر حوارات الفتيات اللائي يرمزن للخصوبة ويشكلن مخزون القيم يتم الرحيل وندخل في الفصل الثالث من المسرحية وهو الفصل الذى تكتمل فيه دورة أحداث المسرحية وتواجه فيه شخوصها قدرها ومصيرها فيتوزع سكان الأودية التى بدأت فيها نذر كارثة الجفاف الذين هم بالضرورة من الرعاة وتقع مناطقهم وفقا لإشارات المسرحية في الغرب الأدنى من السودان وتحديداً في ولاية كردفان وهى إلى الغرب من الخرطوم، يتوزعون شمالاً وجنوباً ليستقر أبطال المسرحية في ولاية الخرطوم وذلك بقرينة ذكر “البحر” في المسرحية الذي يعني في عامية السودانيين “نهر النيل”، فتستقر عائلة حماد وعائلة علي في واحد من الأحياء الطرفية في مدينة الخرطوم، وتستقر عائلة ود إسيد في إحدى قري ضواحي الخرطوم لتبدأ مع هذا الفصل أسئلة النزوح المعقدة والمهددات التي تواجه النازحين عادة.

فى علاقات النص :

تبني مسرحية وادي أم السدر قولها الأخير المبثوث في ثنايا فصولها الثلاثة من خلال تقنية لا تستخدم طريقة المشاهد المعروفة غالباً في بناء المسرحية وتستعيض عن هذا بالانتقال والقطع والمزج في التحول من حدث لآخر، ويحتل فيها المكان ووصفه وكذلك الإرشادات المسرحية موقعاً يضعهما ضمن نسيج البناء الدرامي، كما تتوشح بقاموس تنفتح دلالاته مشكلة إطاراً خارجياً تتشكل منه البيئة الخارجية للنص التى تتحكم بدورها في تطور الشخصيات والأحداث ورسم المكان، فبما أن المسرحية تسعى لبناء ذاكرة للنزوح يكون بالضرورة رسم المكان الذى يتم منه النزوح أمراً ملحاً على أن رسم المكان هنا لا يقف عند الدلالة الشكلية والجغرافية وإنما يتعدى ذلك ليتحول المكان إلى “مكانة”.. إلى ذاكرة.. إلى حياة، فاحتشاد المسرحية بمفردات مثل الدعاش والمطرة والندى والسحاب والغيم والرهيد والخريف والسيل وقبله النحت العبقري لأسماء البنات خاصة “الفرهيد والنديانة وتم الريد” وبالمقابل احتشادها بمفردات مثل المحل والسموم والكتاحة والسفاية والجفاف والرهاب إنما يقدم صورتين متناقضتين للمكان الواحد، فصورة الخريف بما يشتمله من حقل دلالي يفيد الحياة حيث الدفء والعشق وتكاثر السعية والإخضرار وحيث يمكن للناس أن يستقروا ويبدعوا ويصنعوا أمنهم وأمانهم وصورة المحل بما يشتمله من حقل دلالي يفيد الموت والجدب وانقطاع التكاثر وفقدان الأمن والأمان بل والجنون كما في حالة “هجّام” أيقونة شباب الوديان.

بخيتة:-فى تأثر- ووب عَلَىّ.. هجام ود الجرق عقلو زاغ.

ود إسيد: هِى داب زوغة.

بخيتة: عاد أكان كدي.. دي جنية وعقاب بليه.

ود إسيد:-في تأثر- هجّام ودالجرق آ بخيتة.. قالوا وكتين شاف سعيتو تموت قدامو بالكوم وعدمت اسم البهيمة البدرع فيها الجرس.. درع الجرس في رقبتو وصنقّر في الواطة وحبا متل الصغير على ايديه وكرعيه وبي وشو سرح.

بخيتة:-ملتاعة- يا كافي البلاء هجّام حاكا السعية؟

ود إسيد:مرة اجعر متل التور ومرة يهدر متل الجمل.. ومرة اثغى متل الشاة وبي وشو عقلو زاغ.

صورتان بليغتان عبرتا عما كان وعما حدث وشكّلت الثانية منهما عبر بلاغتها المتمثلة في “جنون” هجام الخيار الذى لم يكن هناك مفر منه وهو “النزوح” ومن جانب آخر مهدتا لما سيحدث من تحولات بعد النزوح إلى المدينة فإن كان ما خسره سكان الأودية بسبب المَحَل قد تمثّل في فقدان المكان بكل ما يحمله من دلالات وفي فقدان الثروة وفى جنون هجام فإن ما سيفقدونه جراء نزوحهم هذا الذي من ضمنه العقل بسبب الهذيان كما في حالة ود إسيد وابنه أحمد أو بسبب معاقرة الخمر كما في حالة على سيكون أكبر.

يقول ود إسيد: بخيتة لا تطريني خلاي وتسويه لي رهابا ما بلحقو التاتاي إلا أم جناي حفر ايدينا وغرّق لينا.. خفنا من الرمض وقعنا في النار.

الرمض الذي يعنيه ود إسيد هنا هو المحل والجفاف والنار التى يعنيها هنا هي (المدينة) التى جاورها أهل الوديان وما تحمله من قيم وثقافة تشكّل مهددًا لقيمهم وثقافتهم فمثلما يحدث للمهاجرين أو المهجَّرين في كل مكان واجه اهل الوديان في مكانهم الجديد ظرفًا صعبًا في إيجاد عمل يتدبرون من خلاله معيشتهم فهم قد جاءوا إلى مدينة تقل فيها أصلا فرص العمل خاصة لمن لا يملكون المهارات الكافية، وهم فوق ذلك ينطلقون من نظرة سالبة لبعض المهن فكان التحدي الذي واجههم هو اضطرارهم للعمل في مهن لا يملكون مهاراتها كما في حالة ود إسيد الذى عمل خفيرا في مزرعة فكان عليه أن يتعامل مع أدوات تتصل بالزراعة كـ”المنجل” وهو لا يعرف كيفية استخدامه.

ود إسيد: المنجل عاقْنِي آ بخيتة-يمسك بيده اليمني يده اليسري التي أخذت تنزف دما-

بخيتة: أنا ما قت لك شيتا ما ليك فيهو عرفة ما تتدرعو؟

ود إسيد: عاد أم جناي.. في سعية بسعاها ولا عندي جِمالا برعاها؟ مي ياها خدمة البحر.

إلا أن الأخطر من نزيف ود إسيد ومهن أخرى مارسها بعض سكان الوادي كبيع “الموية” والتسول وهى مهن تمثل عندهم تمثل عيبًا كبيرًا هو ما كان من امتهان اكثرية نسائهم مهنة الخدمة في البيوت “خادمات منزليات” يقمن بالطبخ والغسيل والنظافة ورعاية الأطفال وما يستتبع ذلك من خروج للنساء ومن قيامهن بالصرف على متطلبات المعيشة بما في ذلك متطلبات الرجل أبا كان أو أخا أو زوجًا… لقد شكلت هذه المهنة تحديدًا جوهر المأساة التى انطوت عليها المسرحية لأنها كانت بمثابة السم الذي تجرعه رجال الوديان، فعبرها حدثت التحولات التي طالت قيمهم وثقافتهم وكيف لا والنساء في مثل هذه المجتمعات التقليدية الذكورية هن من يحملن قيمها ويشكلن رمزيتها فهاهن أيقونات الوادي الفرهيد وتم الريد و”النديانة” بشكل خاص يتغير كلامهن وتتغير طريقتهن في اللبس بما يشكل تعديلًا ما لأجسادهن، فالنديانة تخلت عن خطيبها علي والفرهيد حوصرت بإغراءات أحد شباب البيت الذي كانت تعمل فيه وعلا صوت النساء على صوت الرجال.

أحمد: وجنس الأمور دي وصلت لا عند الفريق آ علي؟

علي: دا حديثك.. خطبة النديانة بت كرار طَلَقت في فريقنا النار.

أحمد: إن شاءالله نارًا تحرقا براها.

علي: بنوت الفريق يات من فيهن تقول لي حال النديانة بت كرار ومن يومن داك البنوت دخلن بيوت البندر للخدمة واتسمحن واتجيهن.

أحمد: والرجال وين؟

علي: الرجال!!؟؟ وهو في رجال؟! الرجال آ رفيقي مَكْتِفُن الفقر.. الواحد فيهم يدوخ بالبندر كدى لامن الله يغفر ليه وآخر النهار يجي مدلدل يديه لا شغلة ولا مشغلة.

أحمد: دا حديث شنو آ علي؟

علي: دا حديث النجيع آ احمد أخوي، الجابنا من الوديان.

هذا الاختراق الذي تم عبر النساء يشير وبوضوح شديد إلى ما يمكن أن يتعرض له النازح أو “المهاجر” من أضرار نفسية ومعنوية إذا لم يجد الوسائل الناجعة التي تحمي ثقافته وحقه الإنساني في العمل والتعليم والصحة والمشاركة في الشأن العام وكل ما من شأنه أن يمكّنه من التكيُّف مع الوضع الجديد الذى فُرض عليه وهو ما لم يحدث لأبطال مسرحيتنا، فقد تقبّلتهم المدينة بقسوة بالغة فالنديانة جرفها بهرج المظاهر وعلي أخذته الخمر وأحمد أصابه الهذيان ووقف على حافة الجنون.

الفرهيد: أحمد.. أحمد.. دي أنا الفرهيد يا أحمد.

أحمد: لا.. لا الفرهيد في الوديان.

علي: يا زول قول بسم الله.. الفرهيد هَدِى قدامك.

أحمد: لا..لا.. الفرهيد في وادي أم سدر.. لابد أصلا.. أديها هديتها.. أنا جبتلا نعلات حريم وجبتلا جلابية حريم بلا مقاس.. شوف عين ساكت آ علي أخوى.

أما ود إسيد الذي يجسّد أكثر شخصيات المسرحية “مقاومة” للتحولات لم يسلم حتى هو من الهلوسة بالعودة إلى دياره بعد أن رآها في هذيانه خضراء، كثيرة الزرع والضرع، وافرة المياه..

ود إسيد: -يصيح- الوديان حِيَت بعد ما ماتت.. والفرقان عبّت القيام للوديان.. المحل مات.. وهجّام ود الجرق عقلو رجع وبهايمو حَيَت “ثم يصيح” وكمان محكمة ما في.. والنديانة السجمانة عِرْس البندر طار في راسها.

إن وادي أم سدر، تعد من عيون المسرح السوداني، وهي مسرحية تسيل مأساوية وتشير ضمنًا إلى السياسات التنموية الخاطئة وإلى انتقام الجغرافيا القاسي.

نشير إلى أن وادى أم سدر قد قدمت كمسلسل إذاعي من إخراج صلاح الدين الفاضل، وكمسلسل تلفزيوني من إخراج الشفيع إبراهيم الضو.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى