بابنوسة.. “الحرب عدم”
في معسكراتهم كان الناس يسمعون أصوات الانفجارات لمدة 7 أيام متتالية خاصة تدوين الطيران
الأبيض – قرشي عوض
مساء الخامس والعشرين من يناير المنصرم سمعت (علوية) بأن مدينتها بابنوسة تخضع لحصار محكم من قبل قوات الدعم السريع. كانت علوية -وهو اسم كودي اخترناه لها لدواعي الخصوصية- تعمل موظفة بقطاع حيوي في مدينة الأبيض. قالت إنها اتصلت بأسرتها فرد عليها شقيقها بأن الهجوم قد وقع فجر اليوم، وأن عربات الدعم السريع تقف أمام منزلهم. تضيف بأنه وأثناء تلك المكالمة الهاتفية سمعت صوت مدفعية ثقيلة تسقط، ما زاد مخاوفها على مصير ذويها إذ أنّ الهاتف في تلك اللحظة صمت. لم يعاود شقيقها الاتصال بها إلا بعد الظهيرة. قال لها ان التدوين المتبادل قد توقف بعد تدخل الطيران وضرب الجزء الشمالي من حي أبو اسماعيل الذي يقيمون فيه، وأنهم لاذوا بمنزل خالهم الذي حفر خندقاً في مسكنه، ثم اضاف بأنه سيقوم بإخراج الأسرة وأسر الجيران خاصة الأطفال والنساء الحوامل إلى منطقة (بقرة) التي تبعد مسافة 35 كيلو متراً إلى الشرق. وبالفعل تمكن من ذلك، مشيراً إلى أنّ قوات الدعم السريع ساعدتهم في الخروج. وتضيف خديجة بأنهم لم يكونوا عدوانين في بادئ الأمر.
خيمت الأسرة مع مجموعة أخرى من الأسر الفارة، ولم تقدم لهم أي خدمات. وتشير علوية إلي انه ومن حسن الصدف ان بينهم شباب شكلوا لجنة خدمات حصرت الأسر وصنفتها واتصلت بمفوضية العون الانساني بمدينة الفولة التي كانت آمنة حتى تلك الفترة. استجابت المفوضية لطلبهم. كما قامت الحكومة بالتعاون مع الشباب بتوصيل الهاربين الي أقرب معسكرات تجميع. و وصلت مواد تموينية ومؤاد إيواء تم تقسيمها حسب نتائج الحصر التي انجزتها لجنة الخدمات الشبابية.
والناس في معسكراتهم تلك كانوا يسمعون أصوات الانفجارات لمدة 8 ايام متتالية خاصة تدوين الطيران والذي قصف فريق او شق تجمع فيه الفارون يقع على بعد 8 كيلو مترات من منطقة بقرة المشار إليها فاصاب طفلين في سن ال 6 وال 8 وخالتهم البالغة من العمر 27 سنة.
انتظم الاهالي في أكثر من 20 معسكر ثم تقلصت لان الناس هاجروا الي مناطق تتوفر فيها الخدمات الطبية والأسواق مثل (الميرم) التي وصلتها أسرة علوية ثم هاجروا منها إلى (الفولة) مع عدد من الأسر التي أقامت في المدارس معية آخرين استاجروا منازل.
ورغم تحذيرات شقيقها بعدم مغادرة مدينة الأبيض لأنها معروفه في المنطقة بحكم طبيعة عملها إلا أن علوية أصرت على أن تلتقي بأسرتها في الفولة وتقضي معهم ليالي عيد الأضحى. ولكن في رابع أيام العيد تعرضت الفولة هي الأخرى للهجوم.
أما بابنوسة فقد أصبحت مدينة تخلو من كل مظاهر الحياة، ورغم ذلك يعتقد الكثيرون من أهلها الذين التقيناهم أن مدينتهم لايسكنها طائر الشؤم (البوم). ويرجع معظمهم ذلك إلى بركات الشيخ (أبو اسماعيل) الذي يتوسط ضريحه المدينة. لكن بلال، وهو اسم كودي أيضاً، أحد أبناء المدينة، والذي يعمل موظفاً بوزارة المالية الولائية في مدينة الأبيض ورغم أنه يتفق مع الآخرين إلا أنه يُرجِع الظاهرة الي أن ذلك الطائر الذي يكاد يجمع أهل السودان على أنه نذير شؤم يفضل الهدوء وتجتذبه المناطق المهجورة (الخرابات)، في حين أن بابنوسة مدينة ضاجة بالحياة؛ يستيقظ أهلها على صافرة السكة الحديدية والتي تتخلل كل اليوم معلنة مواعيد الإفطار اوصرف المرتبات ا والانصراف بعد نهاية الدوام. كما تتجاوب معها أخرى تنطلق من المصنع الكبير الذي يستخدم في أغراض أخرى مثل سحن وتعبئة الكركدي بعد أن فشل في مهمته الأساسية في تجفيف الالبان لعدم استقرار قبائل الرحل من حوله وذهابهم في رحلتي النشوق والدمر. ولكن فجأة توقف كل شيء؛ صمتت الصافرات التي كانت تحمل بشريات عديدة أقلها الاستمتاع بوجبة فول في المطاعم التي تظلل واجهاتها الأشجار الكردفانية المعمرة ويتجمع فيها الناس حول ظرفاء المدينة مثل (كراكة) والمرأة المهتمة بالرياضة (كابيلا) وشيخ داؤود الدرويش. أو العودة إلى المنازل في نهاية اليوم في أحياء أبو إسماعيل، السكة حديد، البشمة، السناقل، الفلنكة، الكماسرة، حي التربية، حي البوستة، حي الوحدة، السلام وحي المقطاع شرق وغرب خط السكة حديد.
المنازل هناا متراصة على مد البصر ويقع السوق ومؤسسات الدولة في وسطها والجامعة إلي الشرق منها. لكن كل المنازل الآن باتت مغفرة والشوارع خالية من المارة وضجيج العربات التي تجرها الحمير (الكارو) والدراجات.
يقول آخر الناجين من المحرقة، والذي أخرجته مبادرة الشباب لجمع العالقين والذين تقطعت بهم السبل “خرج الناس جميعهم وتبعتهم الطيور والحيوانات”. ويضيف في إبتسامة حزينة: “حتى البوم لم يأت إلى البيوت رغم أنها أصبحت خرابات”..!
اتجه الناس في البداية إلى أماكن الزروع في صموعة، حاجة مكة في الشرق، والبشمة في الجنوب، لكن معظم الاهالي لم يخرجوا من المدينة في البداية انتظاراً لما كان متوقعاً أن تسفر عنه المبادرة التي قامت بها الإدارة الأهلية. لأن كلا قيادتي القوتين من المنطقة وربما ينتمون إلى أفخاذ من قبيلة واحدة. لكن تلك الجهود لم تثمر. فقد طالب الدعم السريع بانسحاب الجيش وتسليمه مباني الحامية العسكرية. وهذا مارفضه الجيش الذي جاءته إمدادات مادية وبشرية بعد إخلاء مدينة نيالا وطالب بإبتعاد الدعم السريع من حول المدينة. فكان النزوح الجماعي الكبير بإتجاه الشمال والشرق. وإستقر بعض السكان في مناطق (ام جاك – ام خميض – القنطور و المقطاع) وذلك بعد أن دارت معارك ساخنة حول مباني الفرقة 22 واللواء 89 إلى الشمال منها. كما دارت اخرى في مصنع الألبان تم فيها إستخدام الطائرات. ودخل الدعم السريع إلى المدينة وإستباحها عن بكرة ابيها ولم تسلم حتى قبة الشيخ أبو اسماعيل كما يقول بلال الذي أشرف على إجلاء أسرته من مقر إقامته في الأبيض مستفيدا من علاقاته في المنطقة. وأن الأسرة قد تركت خلفها شقيقه الأصغر (ن) وقد إضطر هو الآخر أن يغادر إلى دولة جنوب السودان. ويصف (ن) ماحدث بأنه حينما أحس بوجود حركة غريبة خارج المنزل تسلل من الباب الخلفي. ولكنه شاهد عربات قتالية تقف أمام الباب الكبير. نادوا عليه بأن يقترب وسألوه عن هويته، و قالوا له أنت جندي في الجيش (بنيتك الجسمانية تدل على ذلك)، إلا أن جارهم الطاعن في السن تدخل واقنعهم بأنه يعرف هذا الشاب منذ أن كان طفلا وهو لا علاقة له بالجيش حينها أخلوا سبيله.
وذكر قيادي في حكومة غرب كردفان بأن تلك القوات لم تترك أي شي في المدينة. أو على حد تعبيره “لم يتركوا ولا بنبر”..!
ويعتبر بلال أن ما نهبوه كثير جداً رغم أنه لم تتم عملية حصر حتى الآن. إلا أن المدينة كانت قد جاءت إليها أسر كثيرة من الخرطوم يحمل ذويها متاعهم ومقتنياتهم ظناً منهم بأن المدينة بحكم أنها بعيدة ستظل آمنة ولكنهم خرجوا منها بملابسهم التي على أجسادهم فقط.
توزع الفارون بمساعدة مبادرة شباب بابنوسة على مدن (المجلد، الميرم، شعاع، كجيرة والدبب) . وبعضهم هاجروا الي الفولة والتي اجبروا على مغادرتها بعد تعرضها للاجتياح.
وترك الأهالي خلفهم مدينة لايوجد فيها غير الجيش داخل الحامية ويطالبهم بعدم الحضور إليها. والدعم السريع من حولها ويمنعهم من الاقتراب منها.
وهكذا أسدل الستار على واحدة من أجمل مدن غرب السودان وأكبر مراكز هيئة سكك حديد السودان وغدت بقعة من العمران وسط الرمال. وأن الصروح الكبيرة التي تميزها مثل مسجدها العتيق والنادي الكبير كان قد تم تشييدها من مال المسؤولية المجتمعية للسكة حديد كما ذكر النقابي الكبير (مختار عبدالله) في حديث مع المحرر في وقت سابق بحكم انه كان يعمل بها في ستينات القرن الماضي.
ويضيف عبد الله بأنهم في فرعية النقابة إجتمعوا بالمدير وطالبوا بأموال المسؤولية المجتمعية التي صدقها لهم على الفور. وبالتعاون مع قسم الهندسة في السكة حديد وضعوا مجسمات المباني وتم التشييد والبناء في زمن قياسي. وهاهو الآن ينهار و في زمن قياسي. حقا الحرب عدم..!