سير نسوية في الإذاعة السودانية
السر السيد
توطئة:
للمتعاونين والمتعاونات في الإذاعة السودانية حكايات كثيرة، لعل أهمها إنتاجهم/ إنتاجهن للأفكار البرامجية النوعية، حتى إنه يمكن القول إن غالبية البرامج النوعية التي قدمتها الإذاعة أنتجها المتعاونون والمتعاونات، والمتعاون أو المتعاونة تعني في قاموس الإذاعة ذلك الشخص الذي ليس له هوية رسمية في الإذاعة، وبالتالي ليس له ما يترتب على هذه الهوية من استحقاقات وواجبات تفرضها الوظيفة، وكل ما يتقاضاه إضافة للحق الأدبي مبلغ مالي زهيد. من هؤلاء المتعاونين والمتعاونات في مسيرة برامج الإذاعة على مستوى الإعداد أو الإعداد والتقديم، نذكر على سبيل المثال عبدالله الطيب، وعلي المك، وقاسم علي نور، والأمين أبو منقة، وكمال يوسف، وأمير النور، ونجيب نور الدين، وآمال سراج، والرضية آدم، وبخيتة أمين، وغيرهم وغيرهن. هذا السعي في إدماج أصوات فكرية وابداعية بمختلف مشاربها إن دلّ علي شيء فإنما يدل على انفتاح الإذاعة في سياساتها البرامجية، وهو أمر من شأنه أن يضيف الكثير لما تقدمه الإذاعة.
عن نجيب نور الدين وإنتاجه:
نجيب نور الدين، كما هو معروف من الأسماء الشهيرة في عالم الصحافة، خاصة الصحافة الورقية، محررًا وكاتبًا ومحاورًا وإداريًا، وفوق هذا له مساهمات كبيرة في الإعلام المرئي والمسموع، أكد على مقدراته الكبيرة كصاحب أفكار برامجية خلّاقة ومحاور عليم. في هذه المقالة سأتعرض لبرنامجين أعدهما وقدمهما في الإذاعة السودانية، مُقدمًا إشارات عامة لأحدهما ومتعرضًا للثاني بالقليل من التفاصيل.
أولًا: برنامج الموجة 60:
في الموجة 60، استهدف نور الدين إضافة للتوثيق، الوقوف عبر استنطاق خبراء وأصحاب تجارب في مؤسسات حكومية أو أهلية، لعبت أدوارًا حيوية في الحياة السودانية على مستويات الاقتصاد والاجتماع، والثقافة، والتعليم، ومع ذلك تعرضت للتخريب والاندثار أو الإهمال، فقدّم حلقات معمقة ودقيقة عن صناعات النسيج في السودان، وعن السينما في السودان مشاهدةً وصناعةً، وعن سودانير، وعن مشروع الجزيرة، وعن النقل الميكانيكي، وعن المخازن والمهمات، وعن السكة حديد، وعن معهد المعلمين العالي، وعن الاتحاد النسائي السوداني وغيرها… هذا البرنامج، الذي يشير إلى جهد كبير في البحث وعلى مقدرة فائقة في فتح مسارب الإفضاء، لتأتي المعلومة تلو المعلومة، في جو من الأسى ومشاعر الخسران، فالبرنامج يحكي كيف كانت تلك المؤسسات وأين هي الآن في إشارة نقدية تقييمية للسياسات الاقتصادية المدمرة، التي نهضت على روافع من ضيق الخيال والفساد المؤسسي.
ثانيًا: برنامج نجوم بعيدة:
يقول نجيب نور الدين: (إن برنامج نجوم بعيدة الذي بدأ في العام ١٩٩٤، واستمر لأكثر من عشرين عامًا، قدم خلالها مئات الحلقات، مع توقف مؤقت في دورات إذاعية محدودة، قد تبلورت فكرته وحتى اختيار عنوانه في مكتب صلاح الدين الفاضل، ليقدَّم ضمن سهرات الإذاعة في ذلك الوقت).
يمكن تصنيف البرنامج بأنه يقع ضمن ما يعرف بالسير الشخصية، وتحديدًا السير الشفاهية التي يرويها أصحابها وصاحباتها، ومثل هذا النوع من البرامج يلعب دورًا مركبًا فهو من جانب يوفّر للمستمعين والمستمعات، معلومات لم تكن متاحة لهم في الغالب الأعم عن ضيف أو ضيفة البرنامج، ومن جانب آخر يتيح للضيف أو الضيفة، أن يحكي/ تحكي عن اشتباك الخاص والعام في حياته/ حياتها.. أن يحكيان سيرتيهما، وبهذا يقدم البرنامج حلًا لتلك “الجفوة” مع الكتابة التي تعيشها أكثرية من رموزنا.. يكشف هذا البرنامج عن القدرات الاستثنائية للصحفي نجيب نور الدين في اجتراح الأسئلة، وفي التمكن من تقنيات الحوار التي منها الإصغاء وفتح مسارات التداعي والاستدراك، سيما وأن البرنامج في الأساس يحرّض الضيف أو الضيفة على رواية سيرته/ سيرتها الشخصية التي تتحرك بالضرورة بين التذكر والنسيان وبين الأزمنة والأمكنة المتعددة.
في برنامج نجوم بعيدة قدم نور الدين سيرًا شخصية لرجال ونساء متنوعي المهن والمرجعيات الفكرية والسياسية، فمن الرجال الذين حكى البرنامج سيرهم وهم كثيرون، نذكر الفنان بهاء الدين عبدالرحمن “أبو شلة”، ومتولي عيد مدير الإذاعة الأسبق، وموسى محمد إبراهيم رائد هندسة الصوت في الإذاعة السودانية، وزين العابدين محمد أحمد، واللواء عثمان عبدالله نجم الفترة الانتقالية في انتفاضة أبريل 1985. وفي ذات السياق وكنوع من “السبق الصحفي”، استضاف البرنامج الشاعر التجاني سعيد، والشاعر الطاهر إبراهيم، ونجمي كرة القدم جكسا وأمين زكي، لتكون هي المرة الأولى التي يُستطنق فيها هؤلاء جميعًا عبر مايكرفون هنا أم درمان!
في السير النسوية السودانية:
قبل التعرّض لسير النساء التي قدمها البرنامج، تجدر الإشارة إلى موقع السيرة الشخصية النسوية في ما كتب من سير شخصية في السودان، وهنا أستطيع القول إنها قليلة جدًا مقارنة بما كتب الرجال، فبينما كتب الرجال ما يربو عن الأربعمائة سيرة أو مذكرات، كان عدد النساء اللاتي كتبن سيرهن الشخصية أو مذكراتهن قليل جدًا وقد يعود هذا إلى إكراهات التقاليد، خاصة وأن السيرة الشخصية وبما أنها سيرة قد لا تخلو من اعترافات ما وبوح ما هنا وهناك، وهو مطلب عجزت عن الإيفاء به في أكثر الأحيان حتى أكثرية من سير الرجال، فنحن مجتمع ينشط في قمع كل ما هو خاص. أما النساء اللاتي تجاوزن هذه التابوهات وكتبن سيرهن أو مذكراتهن على حد علمي فهن، نفيسة كامل، وحياة عبدالكريم، ونفيسة أحمد الأمين، وخديجة صفوت، وفاطمة عثمان محجوب، وبدور عبدالمنعم، وإشراقة مصطفى، وفاطمة القدال من خلال تجربتها في الاتحاد النسائي السوداني، ورجاء حسن خليفة التي تقع سيرتها ضمن ما يعرف بـ”السيرة الغيرية”، فقد كتبتها الأديبة فاطمة عتباني.
تكملة لهذا النحت النسوي في الصخر وفي سبيل محاصرة النسيان ومقاومة “الموت”، قدم برنامج نجوم بعيدة عددًا من السير النسوية الاستثنائية، في مجالات تعد الريادة فيها عمل طليعي من نوع خاص، كفن التمثيل، وفن الغناء، وفن السرد، والصحافة، فقدم سير الممثلات، نعمات حماد، وفوزية يوسف، ومنيرة عبدالماجد، ورابحة محمد محمود، وأمينة عبدالرحيم، وفي السرد قدم سيرة الروائية زينب بليل، وفي الغناء قدم سيرة أم بلينة السنوسي، وسيرة الفنانة أماني مراد، وقد كان هذا أول لقاء لها في الإذاعة السودانية، وفي الصحافة قدم سيرة آمال عباس، وفي رائدات العمل النسوي والسياسي قدم سيرة نفيسة أحمد الأمين.
إن نجيب نور الدين ببرنامجه (نجوم بعيدة)، لا يؤسس فقط فضاء للمؤانسة مع نساء استثنائيات قدّمن لمجتمعهن الكثير في ظروف بالغة التعقيد، وفي مجالات ملغومة، تجعلهن في بعض الأحيان، يتنازلن حتي عن أسمائهن، فبينما كانت تذاع أسماء الممثلون الرجال في الدراما الإذاعية، كان يستعاض عن أسمائهن بعبارة “مجموعة من الآنسات”، كما حكت فوزية يوسف. ولذلك فإن هذه السير النسوية الشفاهية، لا تشير فقط إلى اشتباك الخاص بالعام، وما ينجم عنه من مكابدة ورهق وإنما تشير أيضًا إلى درس خفي في المقاومة النسوية، من بعض تجلياته انسراب الصوت النسوي في الأرياف والمدن علي طول امتداد البث الإذاعي، ذلك الصوت الذي يحكي سيرته.. يحكي مقاومته.
إن نجيب نور الدين وبرنامجيه بعض من ذاكرتنا، وبعض من هبات الإذاعة السودانية لنا وللأجيال القادمة. تحياتي لك أستاذ نجيب.