حكاية من بيئتي

سعد مقشاشة

محمد أحمد الفيلابي

ــ أنا جيت.. أنا جيت.. أنا جيت… أيّووووي يوي يوي يوووووويا…

تلقفتها عاصفة من الزغاريد الممزوجة بالضحكات، وهي ترمي حزمة المقاشيش من رأسها.

دفقة فرح ومحبة في بيوت أفراح الأسرة.

تلك الأفراح التي كانت تسبق المناسبة بأيام، حيث يتنادى الأهل من فجاج الحب وجغرافيا الشتات. وتمتد لأكثر من أسبوع، وفقاً لمشاركات أهل الدار في مناسبات الأهل. وغالباً ما يُعمل بمقولة (عشان عين تُكرم ألف عين). وهي من مقولات (سعد مقشاشة) الأثيرة، ما ينم عن بساطتها ورضاها، وطيب سريرتها.

(سعد مقشاشة) مُزنة بشاشة تهطل على لمّات الفرح والترح، لترسم لوحاتها الخاصة، ريشتها (المقشاشة)، وألوانها القفشات التي لا تهدأ، وإن كانت مكتومة (قليلاً) عند تباقص غلبة الحُزن من بعد اليوم الثالث للفقد.

تمنّى أبوها أن يرزقه الله بابن يمنحه اسم أبيه (سعد)، لكنها جاءت بنتاً، فأسماها (سُعدة)، ولم يزد عليها. هي لا تستطيع أن تؤكد للدنيا هذا الاسم (سُعدة)، لأن الجميع يناديها (سعد) بعد إضافة اللازمة (مقشاشة) محبة. ولأنها ببساطة لا تحمل جوازاً للسفر، ولا تعرف لماذا طمس الصدأ شهادة ميلادها، وقد كانت مخبوءة في قعر تلك (القيروانة)، حاملة أسرار أبيها. وحين حاول ابن الجيران الذي يعمل بالشرطة مساعدتها في استخراج الرقم الوطني  أملى اسمها (سعيدة) لأنه لم يعرف اسمها الأصلي. بيد أنها في الأصل سعيدة بأنها هي (سعد مقشاشة)، المعنية بنظافة الحيشان والغرف، وحتى الشوارع، بل بيوت الجيران. الخبيرة في مجال صناعة وإعادة ترميم المقاشيش. فقد بدأ الأمر ليها  باتقان استخدام المقشاشة لساعات طويلة كل يوم، وشيئاً فشيئاً بحثت عن صانعاتها وصناعها المهرة، وخَبِرت كيف تختار أجود أنواع (الحنقوق) ، وكيف تصنع الضفائر الرابطة.

ومع مرور الأيام أدركت أن (المقشاشة) كائن لا غنى عنه في بيئتها. فهي الأداة التي تصنع من موارد محلية من ذات البيئة، وتظل تعمل كل عمرها لنظافة البيئة، وتموت وتُقبر في ذات البيئة، دون أن تسبب أي أذى للأرض، بل قد تضيف إلى خصوبتها. وحتى إن أحرقت فإن دخانها لا يؤذي كما الأدخنة الأخرى.

تماماً كما الإنسان في رحلة حياته. تولد المقشاشة فتية، ثم تشيخ شيئاً فشيئاً. تعمل وتعمل دون أن تفرق بين الفناء المفروش بالرمل، والغرف المضفورة أو المبلطة، وغيرها. ولابد لها من قيادة تحركها ذات اليمين وذات الشمال، إلى الأمام دائماً. وفي حال العودة للوراء يكون في الأمر مراجعة وتقويماً للعمل.

حين تُحدّث (سعد مقشاشة) بأنه لولا المقشاشة لمرض الناس، وامتلأت عيادات الأطباء بالزوار بين (مبطون)  كما تقول، وجريح. وتضرب المثل بذلك البيت الذي لم تستطع أن تدخله لمساعدة تلك العجوز في نظافته، تسكنه وحدها مع أغنامها ودجاجاتها وحمارتها. وكانت النتيجة أن تقرحت قدما العجوز بفضل (الدانقسيتة) .

حين تحكي (سعدة) عن علاقتها بـ(المقشاشة)، لا تملك إلا أن تتأمل هذا الحب والتفاني.

وأكثر ما كان يشعرها بأهميتها حين تتلبس شخصية القائدة، فتختار من بين الصبايا في بيوت المناسبات من رأت فيهن قدراً من المسؤولية. وغالباً ما يكون العدد بقدر ما جاءت به من مقاشيش (تمثل مساهمتها المالية). وهي في العادة لا تأتي بأقل من نصف دستة، وربما أكثر وفقاً لحجم المناسبة ومكانها. تقف في وجههن بصرامة مشوبة بالحب وتخاطبهن.

ــ بقولوا الجواب من عنوانو. وعنوان البيت نضافتو. المناسبة بتجيب القريب والغريب. وكل زولة هنا عندها مسؤوليتها. نحن مسؤوليتنا النضافة. مسؤولية ما هينة. كان ما بقينا زي المقشاشة دي ما بنقوم بي مسؤوليتنا.

وتقوم باستلال قشة واحدة (حنقوقة) بحرفية عالية، وتنحني محاولة التنظيف بها. وبالطبع لن تنجح.

ــ أها …

ثم تحاول الأمر بالمقشاشة كاملة، فينجح الأمر.

ــ كان إتلمينا زي ده بننجح. وأهم حاجة البلمنا شنو؟

تؤشر نحو إحدى الضفائر الرابطة. ثم الأخرى، والثالثة.

ــ ديل محبتنا لي أهل الدار، وروح العمل سوى، وسماع الكلام.

ثم تقوم بتقسيم المجموعة على مساحة الدار، وتمنح كل واحدة مقشاشة.

ــ أول حاجة محل الخدمة، تاني مكان بجوا الجارات والضيوف، بعد داك الحيشان والشارع. وقدر ما نبدأ بدري بكون أخير. ويا إيد البدري شنو؟

وحين لا تجد من يكمل المقولة، تكملها بنفسها..

ــ قومي بدري.. أزرعي بدري.. حِشي بدري.. أحصدي بدري شوفي كان تنقدري .

وتختم بالتنبيه أن على كل واحدة ضرورة مراقبة مساحتها الخاصة أثناء وجود الناس، وأن تقوم بإزالة ما يلزم إزالته دون إزعاج.

ــ عشان تنضفي التراب وسط الضيوف أعملي رشة خفيفة عشان ما يقوم الغبار. وما تكتري الموية عشان ما يتقلع الطين. وراقبي المكان الفيهو الأطفال دائماً.

وهكذا.. تنتهي المحاضرة الأولى. وتتواصل المراقبة الدقيقة، والتوجيهات همساً، أو بالعيون في أغلب الأحيان.

لعل جوتة حين قال “حيث يكون الكثير من الضوء يكون الظل عميقاً” ، أراد أن يحيلنا إلى مفهوم الحاجة والتفاني، إذ أنه حيث يكون التفاني يكون العمل. وحيث يكون النقاء يكون الإحساس أكثر عمقاً. و(سعد مقشاشة) لم تقل هذا بلسانها، لكنها قالته بفعلها، وغرسته بروحها الطيبة، بل جسدته مثلما يقوم الظل بتجسيد الضوء، ومنحه معناه. فالبعد التجسيدي هو الانسجام بين الضوء والظل، كما يقول الفلاسفة. وتمنح إضافة الظل للوحات التشكيلية أبعادها، وحيويتها. وهكذا يفعل نجوم الظل في حياتنا، حين يقودوننا نحو الضوء، مثلما تفعل (سعد مقشاشة)، في ظل قناعتها الراسخة بأهمية وجودها. الوجود الذي لا يراه الآخرون.

نحن في غفلتنا الدائمة نهمل عامل النظافة، ولا نراه كبطل حقيقي، نستحقر مهنته، في حين يحترمه الآخرون في البلدان التي لديها قوانين عمل قوية وأنظمة صارمة للصحة والسلامة المهنية، حيث توفر له  ظروف عمل أفضل. وشمل ذلك الأجور العادلة، وساعات العمل المعقولة، والحصول على المزايا مثل التأمين الصحي والمعاشات التقاعدية. مثلما هو الأمر في السويد – مثلاً. أما في اليابان فيُعتبر عامل النظافة (مهندس صحة و نظافة)، وقد يصل راتبه الشهري إلى 8000 دولار. الراتب الذي قد يقل قليلاً في دول أخرى، لكنه يزداد مع زيادة عدد سنوات الخبرة. كما أن هناك شروط خاصة للانضمام إلى هذا القطاع المهني، أهمها إتقان القراءة والكتابة، واللياقة البدنية.

أما في المجتمعات العربية والأفريقية فنجد أن ظروف عمل عمال النظافة تتفاوت بين دولة وأخرى. ولا تزال النظرة الدونية تجاه هذه المهنة قائمة، وسط تدنٍ كبير لرواتب العاملين فيها. وهذه النظرة السلبية تعكس مجموعة من القضايا الاجتماعية والثقافية حد ملامسة البعد العنصري، ذلك رغم ما يؤديه عمال النظافة من دور محوري في مجتمعاتنا.

تدرك (سعد مقشاشة) أن بعض النساء ينظرن إليها بدونية، ومع ذلك يحببن وجودها بينهن اعترافاً ضمنياً بما تقوم به من غرس لقيمة عملها في الصبايا اللائي تجد منهن تقديراً ومحبة، واحتراماً. فقد اعترفت إحداهن أمام الجميع أن ما تقول به (سعد مقشاشة) هو مادة تدرس لهم في الجامعة، وأنها تلقفتها منها بأفضل من البروفيسور المتخصص في الشأن. إذ تقوم (سعد مقشاشة) بمزج النظري بالعملي وبمحبة فائقة.

التحية والتقدير لكل خط ترسمه هذه المقشاشة. وعبرها التحية لكل عامل نظافة يقوم بإزالة أوساخنا من على وجه الأرض، وإماطة للأذى في الشوارع وفي النفوس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى