من سقوط الخرطوم إلى استعادتها: دروس الماضي ورهانات المستقبل (3)
التاريخ 5/ابريل/2025
محمد عمر شمينا
استعادة الخرطوم لم تكن مجرد حدث عسكري، بل نقطة تحول تفرض إعادة قراءة المشهد السياسي في السودان من جديد. في المقالين السابقين، ناقشنا كيف أن سقوط القصر الجمهوري كان نتاجًا لمشكلات بنيوية عميقة في الدولة السودانية، بدءًا من التدخلات السياسية في المؤسسة العسكرية، مرورًا بالفراغ السياسي بعد ثورة ديسمبر، وصولًا إلى الأدوار الإقليمية والدولية التي عقدت المشهد. استرجاع العاصمة، إذن، لا يعني نهاية الأزمة، بل يفتح الباب أمام أسئلة أكثر تعقيدًا: كيف يمكن استثمار هذا الانتصار في بناء دولة حكم القانون؟ وكيف يمكن تفادي إعادة إنتاج أخطاء الماضي؟
المسألة لم تعد تقتصر على استعادة الخرطوم، بل على استعادة الدولة نفسها. فالتجارب السابقة أثبتت أن الحلول الجزئية لا تصمد طويلًا، وأن أي مشروع سياسي لا يستند إلى رؤية وطنية جامعة محكوم عليه بالفشل. هنا، يبرز تحدي الانتقال من مرحلة الحرب إلى مرحلة التفاوض، ولكن ليس بأي شروط، بل وفق واقع جديد يفرضه الانتصار العسكري. فلا يمكن بأي حال العودة إلى معادلة ما قبل 15 أبريل، حين كان السودان أسيرًا لميزان قوى مختل، أفرز حربًا لم يكن لها أن تندلع لولا مشكلات الدولة العميقة والصراع المستمر على السلطة.
لكن التفاوض لا يعني تقديم تنازلات مجانية. بل ينبغي أن يكون امتدادًا للانتصارات العسكرية، بحيث يُفرض منطق الدولة على منطق الميليشيات. ومن هنا، تأتي أهمية رسم خارطة طريق سياسية واضحة تضع السودان على مسار جديد، قوامه دولة حكم القانون، ومؤسسات سياسية مستقرة، وإصلاح عميق للمؤسسة العسكرية يجعلها أكثر احترافية واستقلالًا عن التجاذبات السياسية.
خارطة الطريق تبدأ أولًا بإصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية، ليس فقط عبر دمج القوى العسكرية في جيش وطني موحد، بل بتغيير العقيدة القتالية للجيش بحيث يصبح أداة لحماية الدولة والمواطنين، وليس طرفًا في الصراع السياسي. فإعادة بناء الدولة لا يمكن أن تتم دون مؤسسة عسكرية قوية، ولكنها في الوقت ذاته بعيدة عن التسييس والاستغلال.
ثانيًا، لا بد من إعادة تعريف العلاقة بين المدنيين والعسكريين في إطار شراكة واضحة المعالم، تتجاوز التجارب السابقة التي أفرزت صراعات متكررة على السلطة. المرحلة المقبلة يجب أن تؤسس لنظام حكم يضمن انتقالًا سياسيًا حقيقيًا، وليس مجرد إعادة إنتاج لصيغ الحكم المؤقتة التي أثبتت عدم فاعليتها.
ثالثًا، تهيئة المناخ لحل شامل، وهو أمر بالغ الصعوبة لكنه ليس مستحيلًا. السودان بحاجة إلى طاقة سياسية جديدة، وإلى وجوه شابة تحمل فكرًا متجددًا لا تثقله صراعات الماضي. فالشباب والمرأة، اللذان لا يحملان حمولة فكرية قديمة وثابتة، يمكن أن يكونا حجر الأساس في مشروع التغيير القادم، لا باعتبارهما مجرد مكونات مجتمعية، بل كقوة سياسية فاعلة تسهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي برؤية أكثر حداثة وشمولًا.
رابعًا، لا بد من إعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية، فالحرب دمرت البلاد، وإعادة الإعمار ليست مجرد مسألة هندسية، بل مشروع سياسي واقتصادي متكامل يعيد ثقة المواطنين في الدولة. السودان بحاجة إلى اقتصاد قادر على تحقيق تنمية حقيقية، وليس مجرد اقتصاد ريعي قائم على المعونات والديون الخارجية.
أما خامسًا، فالحل السياسي المستدام لا بد أن يتضمن عملية عدالة انتقالية، تضمن محاسبة كل من أجرموا بحق الشعب، وكل من أفسدوا الحياة السياسية، دون أن تتحول هذه العملية إلى أداة انتقامية تُستخدم لتصفية الحسابات السياسية. السودانيون يعرفون من أجرموا في حقهم، ومن تلاعبوا بالمشهد السياسي، ولا يمكن بناء مستقبل جديد دون مواجهة صريحة مع الماضي.
سادسًا، التعامل مع المجتمع الدولي والإقليمي يجب أن يكون وفق رؤية وطنية واضحة. السودان ليس ساحة لتصفية الحسابات الخارجية، وأي محاولة لفرض أجندات دولية تتعارض مع المصالح الوطنية يجب أن تُواجَه بموقف حاسم. في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل الدور الدولي، بل يجب توظيفه لصالح إعادة بناء السودان على أسس سليمة، لا على حساب استقلالية قراره الوطني.
السيناريوهات المحتملة تتأرجح بين ثلاثة مسارات رئيسية: الأول، استثمار هذا الانتصار لترسيخ واقع سياسي جديد يعيد بناء السودان على أسس أكثر استقرارًا؛ والثاني، الانزلاق إلى مرحلة انتقالية مضطربة تكرر أخطاء الماضي دون تحقيق تغيير حقيقي؛ أما الثالث، وهو الأخطر، فهو العودة إلى حالة الفوضى نتيجة غياب رؤية واضحة لما بعد الحرب. تصريح الفريق البرهان بشأن فترة انتقالية تسبق الانتخابات يعكس غموضًا في تحديد معالم المستقبل، مما يجعل من الضروري فتح نقاش وطني واسع لضبط معايير هذه المرحلة وضمان نجاحها
غير أن تحقيق أي من هذه السيناريوهات لن يكون ممكنًا دون مراجعة شاملة لمن أفسدوا الحياة السياسية في السودان، لأن إعادة بناء الدولة لا يمكن أن تتم على ذات الأرضية المهترئة التي قادتنا إلى هذا الوضع. فالشعب السوداني يعرف من ساهموا في تعقيد المشهد، ومن وقفوا عقبة أمام التحولات الديمقراطية، ومن مارسوا الإقصاء والتهميش. السودان الجديد يجب أن يكون قائمًا على أسس مختلفة، لا على إعادة إنتاج القديم بصياغات جديدة.
إن استعادة الدولة تحتاج إلى رؤية تتجاوز الحلول قصيرة المدى. فلا يمكن أن يكون الحل مجرد انتخابات تُجرى تحت ضغط المجتمع الدولي، دون أن تكون هناك بيئة سياسية حقيقية تسمح بمنافسة عادلة. كما لا يمكن أن يظل الجيش وحده مسؤولًا عن تصحيح الأوضاع، بينما القوى المدنية تكرر أخطاء الماضي في الصراع على السلطة دون تقديم مشروع وطني جامع. المطلوب هو توافق وطني على أسس جديدة، تضمن مشاركة الجميع، وتضع السودان على مسار الاستقرار الحقيقي.
وهنا يأتي دور النخبة السياسية، التي يجب أن تدرك أن المرحلة القادمة لا تحتمل الحسابات الضيقة. لا بد من خطاب سياسي متقدم، يعترف بتعقيدات المشهد، لكنه في ذات الوقت لا يستسلم لها. المرحلة المقبلة ليست مجرد انتقال سياسي، بل هي إعادة بناء شاملة لدولة عانت طويلًا من الانقسامات والأزمات.
ما تحقق في الخرطوم هو بداية، وليس نهاية. والطريقة التي سيُدار بها هذا التحول ستحدد ما إذا كان السودان قادرًا على تجاوز محنته، أم أنه سيظل عالقًا في دورات الصراع التي لم تفارقه لعقود