دَفَن جُثث قتلى الحرب في الأحياء والميادين دون اتباع البروتوكول القانوني:
طمس معالم الجرائم وإهدار حقوق الضحايا
سمير شيخ إدريس
أفضت الحرب الدائرة في السودان، التي أكملت عامها الثاني؛ إلى سقوط آلاف القتلى في مناطق النزاع على مستوى العاصمة والولايات التي شهدت معارك عسكرية بالمواجهات المباشرة والقصف العشوائي بين الطرفين، إضافة لمن قضوا بسبب تأثيرات الحرب من المرض ونقص الدواء والرعاية الصحية أو بسبب الجوع وانعدام الغذاء، وقد خلف هذا الوضع آلاف الجثث التي تُرك بعضها في العراء حتى تحللت ونهش بعضها الكلاب والفئران والحشرات، وتم إلقاء البعض في الآبار والخيران ومجاري الصرف الصحي، أما القتلى أصحاب الحظ بعد الموت في بعض أماكن النزاع المأهولة بالسكان والآمنة نسبيًا فقد حظيت جثثهم بالمواراة تحت التراب بواسطة بعض السكان الذين ظلوا في مناطق النزاع، فتم دفن الجثث في الميادين العامة والشوارع والبيوت والأسواق والمدارس والمساجد، حيث لم يكن متاحًا في كثير من الأحوال بسبب الأوضاع الأمنية الوصول للمقابر المعروفة في أطراف المدن والأحياء وتوافر وسائل وأدوات الدفن .
كل الحالات التي تم فيها دفن جثث الموتى من قبل المواطنين سواءً عن طريق المبادرة الفردية، أو عبر اللجان الأهلية التي تطوعت لجمع الجثث ودفنها في أقرب مكان خوفًا من الكلاب الضالة؛ في تجمعات مقابر مؤقتة في الميادين العامة وهناك جثث تم دفنها حيث وجدت بسبب تحللها واستحالة نقلها. وهذه المبادرات على الرغم من قصورها عن اتباع الطرق المعتادة للدفن بسبب ظروف الحرب والأوضاع الأمنية، تلاحظ أنها تمت بشكل تغلب عليه العفوية والبساطة السودانية تحت قاعدة (إكرام الميت دفنه) دون اعتبار للمخالفات القانونية والمخاطر اللاحقة لعملية الدفن العشوائي تلك، فمن الناحية الصحية تم دفن غالبية الجثث في حفر سطحية ليست بالعمق الكافي، ودون تغطيتها بالحجر الخرصاني العازل للرائحة والمقاوم للنبش ما أدى لإعادة نبش الجثث سطحية المدفن بواسطة الكلاب أو إعادة ظهورها على سطح الأرض بسبب الأمطار ما يجعلها عرضة لتجمع الحشرات والذباب ما أدى لمخاطر صحية وبيئية سوف تسبب كوارث لاحقة، ومن الناحية القانونية فقد تم دفن الموتى دون اتباع البروتوكول القانوني السليم ولم تتم عبر جهات قانونية ما يؤدي بالضرورة لحدوث تبعات واشكالات قانونية في المستقبل القريب، حيث يؤدي هذا الفعل إلى إهدار الحقوق القانونية للضحايا ويقود إلى طمس الأدلة وملابسات الوفاة والمسؤولية الجنائية عن الجرائم المرتبطة التي تعرض لها القتلى، ويصعب من محاسبة المتسببين في القتل ويساعدهم على الإفلات من العقاب، سيما أن أعدادًا كبيرة من القبور اختفت أماكنها بسبب تكدس المخلفات فوقها ونمو الأعشاب بسبب الأمطار.
حالت ظروف الحرب والأوضاع الأمنية دون تمكن الجهات المختصة الرسمية والشعبية عن القيام بدورها في متابعة دفن الموتى وفقًا للشكل القانوني المطلوب، ودون تمكنها من إجراء عمليات الحصر والإحصاء، وتوفير بيانات دقيقة عن عدد الجثث المدفونة في الشوارع والأحياء سوى الإحصاء الذي أصدرته لجان المقاومة المختلفة في العاصمة والعاملة في الغرف الطوعية بالأحياء عن عدد ثلاثة آلاف جثة، واكتفت المنظمات وجهات الاختصاص بنشر توجيهات عامة للتعامل مع جثث القتلى قبل دفنها بتصوير الجثث من كافة الأوضاع ووضع ترقيم لكل جثة، وتوثيق وكتابة الاسم ومكان الوفاة ومواقع القبور بوضع علامات تدل على الموقع، والتبليغ لدى أقرب الجهات المختصة إن وجدت، والاحتفاظ بسجل وكشوفات الأسماء والصور ومقتنيات المتوفى الشخصية ما أمكن وتسليمها لأقرب سلطات صحية إن توفرت، مع اتباع التدابير الصحية والوقائية الصادرة من السلطات الصحية عند التعامل مع جثث الحرب من استخدام القفازات والمطهرات والمبيدات بقدر توافرها وعدم تحريك الجثث المتحللة من أماكنها.
بعد التطورات الأخيرة في ميدان المعركة وتقدم قوات الجيش نحو مناطق واسعة كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع في الخرطوم، عمدت سلطات الولاية بمعاونة الجيش وبعض المواطنين على جمع جثث قتلى قوات الدعم السريع وبعض المدنيين من مخلفات المعارك الموجودة في الطرقات والمصارف والمطمورة في قبور جماعية سطحية، وتم دفن تلك الجثث من قبل السلطات والمواطنين دون اتباع البروتوكول المقرر لذلك ودون إجراء أي فحوص طبية توضح سبب الوفاة وتوصف شكل الجثة وما عليها من معالم والظروف المحيطة، ولم تستجب السلطات لمناشدات المختصين والجهات التي طالبت بالاستعانة بالصليب الأحمر وخبراء الطب العدلي بالشكل الذي سيقود بالضرورة لضياع حقوق الضحايا بطمس معالم الجريمة وضياع الأدلة على الجرائم سيما وأن القتل تم في ظروف نزاع مسلح غابت فيه السلطة المركزية وقبضة الدولة بما يعزز من احتمالية وقوع جرائم ضد الإنسانية وقتل خارج القانون، وهي بذلك تعد مرتكبة جريمة أخرى بإخفاء الأدلة وتساعد في إفلات المجرمين من العقاب ويفقد سبل المحاسبة اللاحقة واحتمالات العدالة الانتقالية.
التطور الذي لحق بالبشرية أدى لتعزيز حماية الأشخاص ضد الانتهاكات في حالة الحياة وحتى بعد الموت، وهذا التطور قابلته استجابة في التشريعات والقوانين الدولية والمحلية التي تحمي حقوق الإنسان حتى بعد الممات بحماية الجثث في حالة الوفاة في ظروف يغلب عليها الانتهاك الحاد لحقوق الإنسان وحقه في الحياة وتعرضه للقتل خارج القانون، تم تضمين ذلك الحق ابتداءً في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني الذي يُطبَّق في أوقات الحرب والتشريعات المحلية لغالبية الدول، وكذلك الاتفاقيات الدولية، حيث نصت اتفاقية جنيف على (ضرورة معاملة جثث الموتى بطريقة تتسم بالاحترام وتحترم قبورهم وتصان بشكل ملائم سواء في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية)، كذلك بروتوكول مينيسوتا المتعلّق بالتحقيق في حالات الوفاة التي يحتمل أن تكون غير مشروعة، ويشرح مبادئ معاملة الجثث وما يليها من إجراءات التحقيق وتشريح الجثث ونبش القبور وتحليل الحمض النووي والهياكل العظمية، وكل ما تستلزمه متطلبات التحقيق والمساءلة اللاحقة لتحقيق العدالة وإنصاف الضحايا ومعرفة الحقيقة وجبر الأضرار لضمان عدم تكرار ما حدث وعدم إفلات المسؤولين عن الجرائم من العقاب.
من الواضح أن الحرب الدائرة وضعت البلاد في حالة اللا دولة ولا تبشر بعواقب وواقع يدعو للتفاؤل آن انتهاء الحرب، حيث أن الدولة والمواطنين موعودون بأكبر جريمة في التاريخ المعاصر بطمس معالم وأدلة آلاف الجرائم التي يمكن تصنيفها بكونها ضد الإنسانية، وسيادة أكبر موجة من إفلات المجرمين من العقاب بسبب عمليات الدفن العشوائي الواسعة لجثث القتلى من ضحايا الحرب سواء بشكل متعمد مارسته السلطة باعتبارها شريك في الجريمة تدل الشواهد على تورطها في عديد من الانتهاكات التي ترقى لوصفها كجرائم حرب وما لها من مصلحة مباشرة في إخفاء كل الآثار التي تدل على جرائمها، أو ذلك الطمس الذي تم من قبل المواطنين بالعفوية القاتلة لدفن الجثث وعدم الوعي بأهمية الجثث وضرورتها اللاحقة في الإثبات والمساءلة خاصة في حالة الوفيات الحادثة أثناء الصراع المسلح وبطرق غير مشروعة. كان من الأوجب الالتزام حتى ولو بالقليل من الضوابط والتحوطات التي تحفظ حق الموتى بدلًا من الذهاب في حالة الغيبوبة العفوية التي تشكل جريمة يرتكبها المواطن دون وعيه وتؤدي لضياع حقوق آلاف الضحايا وهو ليس مجرد خيار بل هو واجب يفرضه الضمير قبل التشريعات والقوانين.