عامان من الجحيم… والثالث على الأبواب
تدخل البلاد اليوم الثلاثاء عامها الثالث وهي ترزح تحت جحيم نيران حرب عبثية أتت على كل شيء. وطنٌ كان جريحًا بالأمس، صار اليوم حطامًا ممزقًا، لا تكاد تُحصى فيه المآسي ولا تُعد فيه الفواجع. عامان من الدماء والموت والتشريد والدمار الكامل للبنية التحتية. مدنٌ أُحرقت، قرى نُهبت، وخرائط بشرية أُعيد رسمها بالنزوح القسري.
في ظل هذا الخراب، تناسلت المليشيات حتى بلغ تعدادها، وفق أكثر التقديرات، نحو 130 تشكيلًا مسلحًا، بينما تتحدث أقل التقديرات عن 30 مليشيا. فوضى السلاح، وتكاثر مراكز النفوذ، وتحوّل الجبهات إلى إقطاعيات خاصة. الجميع يحمل السلاح، والجميع يقتل باسم الوطن أو الدين أو القبيلة
الأخطر من ذلك أن الإسلاميين، الذين لفظتهم ثورة ديسمبر، عادوا بقوة ليقبضوا على المشهد، يتحكمون من وراء الستار ويديرون آلة الحرب بدم بارد، مُصرّين على مسح ما تبقى من كرامة الجيش الوطني بالأرض، وتحويله إلى مجرد أداة في معركتهم المفتوحة ضد الشعب والتاريخ.
بلد بلا كهرباء، بلا مستشفيات، بلا طرق آمنة ولا غذاء كافٍ، يستمر الموت بلا توقف، والنزوح بلا أفق. ملايين السودانيين يُطردون من أرضهم، يركضون في المجهول، فيما صمت العالم يُطبِق، وتتصاعد المأساة يومًا بعد يوم، وندخل إلى العام الثالث من الجحيم، وسط انغلاق شبه كامل في الأفق السياسي، وغياب أي مؤشرات جدية على اقتراب تسوية تنهي النزيف. الحرب التي بدأت بصراع مسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع، تحولت إلى ساحة مفتوحة لفوضى المليشيات، والانهيار المؤسساتي، وانقسام الخريطة السياسية والاجتماعية.
في ظل تشرذم القوى السياسية المدنية الحية، وعجزها عن التوحد في مشروع وطني جامع، يزداد المشهد تعقيدًا. معظم القوى المعارضة للنظامين العسكري والمليشياوي إما فقدت تأثيرها، أو تحولت إلى كيانات منفية خارج البلاد. هذا الغياب منح الإسلاميين، وأذرعهم في المؤسسة العسكرية، فرصة لإعادة تنظيم صفوفهم، وتعميق حضورهم في المشهد الأمني والسياسي.
وسط هذا الواقع، تتشكل ثلاثة سيناريوهات محتملة أولها، استمرار الحرب لفترة أطول مع تحلل تدريجي لمؤسسات الدولة، وتمدّد المليشيات وظهور كيانات مسلحة جديدة، مما يدفع البلاد نحو صوملة شاملة.
ثانيها، فرض تسوية سياسية هشة بضغط إقليمي ودولي، تبقي على توازنات السلاح والمصالح، دون معالجة جذور الأزمة، ما يعني استمرار النزيف بأشكال أخرى، أما السيناريو الثالث، والأكثر خطورة، هو تفكك السودان إلى أقاليم متصارعة فعليًا، مع ظهور سلطات أمر واقع في مناطق متفرقة، وانسحاب الدولة المركزية عن مسرح الفعل.
في كل الأحوال، يظل مصير السودان معلقًا، مهددًا بالمزيد من التشظي، ما لم تستعيد القوى الوطنية الحية زمام المبادرة، وتطرح مشروعًا وطنيًا واضحًا يوقف الحرب، ويعيد بناء الدولة على أسس جديدة.