تأملات جيل في أطروحة فرانسيس دينق
الكاتب بتناول إشكالية تطبيق أطروحة فرانسيس دينق حول “الهوية السودانية الجامعة” في ظل الواقع المعقد للسودان اليوم؛ حيث يتحول التنوع إلى ساحة صراع على السلطة والموارد بدلاً أن يكون مصدر إثراء للنسيج الوطني.
يتناول كذلك الكاتب الجدل حول مسؤولية الأزمة السودانية، ويناقش وجهتي نظر متقاطعتين: واحدة ترى في الاستعمار البريطاني الجذر الأساسي للأزمة، وأخرى تلقي باللوم على النخبة السودانية التي فشلت في بناء دولة مدنية عادلة بعد الاستقلال، لافتاً إلى أن كلا العاملين ساهما في تشكيل الأزمة، لكن الفشل الأكبر يكمن في عجز النخبة عن تجاوز الإرث الاستعماري عبر مشروع وطني شامل.
يحلل كذلك التداعيات الخطيرة لخطاب “المساواة الأخلاقية” بين طرفي النزاع الحالي (الجيش مقابل الدعم السريع)، كما ظهر في تصريحات خالد عمر يوسف، ويوضح الكاتب كيف أن هذا الخطاب، رغم نواياه النبيلة، يساهم في طمس الفروقات الجوهرية بين مؤسسة وطنية (وإن كانت منحرفة) وميليشيا متهمة بارتكاب جرائم حرب، مما يعيق إمكانية بناء رؤية أخلاقية واضحة للمستقبل.
يشير المقال إلى أن حل أزمة الهوية في السودان يتطلب أكثر من مجرد خطاب نظري حول الوحدة في التنوع، والخروج من المأزق الحالي يحتاج إلى جرأة في الانتقال من مرحلة التنظير إلى مرحلة الفعل، عبر بناء مؤسسات دولة قائمة على العدالة الانتقالية الحقيقية، والمساءلة الجادة، والاعتراف العميق باختلافات المكونات السودانية دون تسويتها أو تهميشها. فقط عبر هذا المسار يمكن تحويل رؤية دينق من حلم نظري إلى واقع عملي.
======
تأملات جيل في أطروحة فرانسيس دينق
محمد عمر شمينا
في أحد حواراته الأخيرة، أعاد الدكتور فرانسيس دينق التأكيد على مفهومي “الهوية السودانية الجامعة”، وضرورة إدارة التنوع الإثني والديني في السودان بشكل عادل. هذا المفهوم لم يكن مجرد طرح نظري، بل رؤية عملية تمثل، في نظره، مفتاحاً لفهم جذور الأزمات السودانية المستمرة. كما أشار إلى أن الأزمة تكمن في إنكار هذا التنوع وعدم القدرة على احتوائه ضمن إطار وطني شامل.
لكن بينما تشخص هذه الرؤية إلى جذور الأزمة، فإن الواقع السوداني اليوم يُظهر أن التحديات التي نواجهها تتجاوز الاعتراف بالتنوع إلى ضرورة التعامل مع مكوناته بشكل عادل وفعّال. في هذا الإطار، تبدو أفكار دينق نبيلة، لكنها تصطدم بواقع مرير، حيث يستمر غياب مشروع فعلي لبناء دولة ذات هوية جامعة، ويستمر التنوع نفسه في التنازع على السلطة والموارد.
وفي هذا السياق، يُلاحظ صديقي حيدر، الذي يرى أن جزءاً كبيراً من المشكلة في السودان يعود إلى الاستعمار الإنجليزي، وهو ما أتفق معه فيه إلى حد بعيد. لا شك أن الاستعمار ترك آثاراً عميقة في بنية الدولة والمجتمع السوداني. ومع ذلك، حيث نختلف هو في تحميله المسؤولية الكاملة للمستعمر. أعتقد أن المشكلة الحقيقية تكمن في النخبة السودانية التي، بعد الاستقلال، لم تنجح في تجاوز إرث الاستعمار ولم تتمكن من بناء دولة مدنية تضمن العدالة والمساواة بين كل مكونات المجتمع السوداني. النخبة السودانية، بدلاً من أن تعيد بناء الدولة على أسس جديدة، استمرت في تبني ممارسات وقيم قديمة، ما أدى إلى تفاقم الأزمات بشكل مستمر.
وعندما نتأمل في الخطاب الأخير لخالد عمر يوسف (سلك) في لندن، الذي أشار فيه إلى أن الجيش ارتكب انتهاكات مماثلة لتلك التي قامت بها قوات الدعم السريع، نجد أن هذا التصريح، وإن اعتقد صاحبه أنه جريء، لم يكن موفقاً. فبينما كان قد يُفهم كمحاولة لتسليط الضوء على “الظلم في كل مكان”، إلا أن التصريح كان بمثابة مساواة غير مدروسة بين طرفين مختلفين في طبيعة سلوكهما. الجيش، كما هو معروف، هو مؤسسة وطنية أُسست للدفاع عن البلاد، بينما قوات الدعم السريع هي ميليشيا مرتكبة لجرائم حرب من النظام السابق، وتم استخدامها لتحقيق أهداف سياسية ضيقة.
إن هذا النوع من التصريحات يعكس مأزقاً سياسياً، حيث يتم التورط في خطاب موازنات مبتورة قد تضر أكثر مما تنفع. فالموازنة بين الجيش والدعم السريع بهذا الشكل تُضعف من القدرة على اتخاذ مواقف أخلاقية واضحة تجاه القضايا الإنسانية، وتعيق قدرة السودان على بناء خطاب وطني قائم على المحاسبة والعدالة الحقيقية. كما أنها تذكرنا بأنه في مسألة العدالة، لا يمكن بناء مواقف ثابتة على التسويات المجتزأة أو التعميمات.
الواقع اليوم في السودان هو تجسيد حقيقي لأزمة التنوع؛ أزمة لا يمكن حلها بالتأكيد على الهوية الجامعة فقط، بل عبر التعامل الجاد مع أبعادها الثقافية والسياسية. ويجب أن تتضمن هذه المعالجة بناء دولة جديدة تضمن لكل مكون فيها مكانه دون تهميش أو استبعاد.
على الرغم من أن أطروحة فرانسيس دينق تبقى حجر الزاوية لفهم الصراع السوداني، فإن ما نحتاجه الآن هو تجاوز الخطاب النظري إلى آليات عملية تؤسس لدولة حكم قانون حقيقية، تضمن المحاسبة ولا تساوي بين الضحايا والجلادين. يتطلب الأمر شجاعة أكبر من مجرد الاعتراف، بل شجاعة في الفعل والتغيير الجذري.