ندوب الحرب

تحول جذري في أدوار النساء: حولت الحرب النساء السودانيات من ربات بيوت إلى نازحات وحاملات لأعباء لا تنتهي، حيث اضطررن لتحمل مسؤوليات جديدة تشمل تأمين الغذاء والمأوى والتعليم في ظل ظروف قاسية.

 

تمزق النسيج الأسري: أدت الحرب إلى تشتيت العائلات السودانية، حيث توزع أفراد الأسرة الواحدة بين مناطق القتال ودول اللجوء، مما خلق حالة من الفراق الدائم والقلق المستمر على المفقودين.

 

صدمات نفسية مستمرة: تعاني النساء من آثار نفسية عميقة بسبب الحرب، حيث أصبحت أي أصوات مفاجئة أو كلمات معينة كفيلة بإثارة ذكريات مؤلمة عن العنف والدمار.

صراع بين اليأس والأمل: رغم المعاناة، تحتفظ العديد من النساء بأمل العودة وإعادة البناء، لكنهن يطالبن أولاً بوقف الحرب وإغلاق “أبواب الجحيم” التي تسببت في كل هذا الألم.

=‫=======‬

كيف حولت الحرب نساء السودان من ربات بيوت لنازحات.. ومن كاتمات أسرار إلى حاملات هموم لا تحصى.. وكيف مزقت النزاعات أوصال الأسر؟ 

ندوب الحرب 

الزين عثمان 

 

تقول  سيدة  سودانية  غادرت  بلادها  عقب  حرب  أبريل  لكنها  لا تزال عالقة وسط النيران: “بعد أن انتزعت حربهم  منا حياتنا، وانتزع  جنودهم المدججون بالسلاح  ممتلكاتنا، ونحن نحاول الهروب من مرمى نيران الموت مطحنة موتهم، انتزعنا من بيوتنا انتزاعًا، وأصبحنا معلقين بين توصيف كوننا لاجيئن في دول الآخرين أو نازحين داخل حدود وطننا. أخبروني أمس أن الشفشافة نجحوا في انتزاع باب منزلي  من الجدران، ما ضاعف حزني ليست القيمة المادية للباب، بل قيمته المعنوية فمن  نهبه لا يعلم مقدار القصص والحكايات خلفه، لا يعلم أنه انتزع حياة كاملة كانت هناك خلف هذه الأبواب المنزوعة من جدرانها، آلاف الحكايات والتفاصيل ومئات الأسرار لأسر كانت تملأ ضحكاتها الأمكنة”. تختم السيدة: “من صنع الباب الأول قادر على صناعة باب آخر، لكن ماذا عن أبواب الجحيم المفتوحة على مصراعيها بفعل الحرب؟ ماذا عن النساء اللواتي غادرن أبواب بيوتهن بحثًا عن الأمان؟ وماذا عن الأسر في  زمن الشتات؟”. 

آلاف من النساء السودانيات وجدن أنفسهن في  مواجهة غول الحرب التي حولتهن من ربات بيوت إلى نازحات، ومن كاتمات أسرار إلى حاملات هموم لا تحصى بعد أن فرقت  الحرب جمعهم الواحد، ومزقت النزاعات أوصال الأسر، الأب عالق في الجحيم يحرس أثاث لا قيمة له، الأم حملت صغارها وغادرت بهم نحو “مصر” تحاول جاهدة الحصول على مقعد لإكمال دراستهم، الأخ الأكبر نازح ومقيم في أحد مدارس الولايات في انتظار قرار  حكومي بتفريغها من النازحين وكأنهم هناك في  رحلة صيفية. “فرتقونا” وهم  قبل حربهم  العبثية كانوا “واحد” أو كما قالت تلك السيدة وهي تغادر منزلها في مدني بعد أن دخلتها الحرب وأدخلت أهلها في دوامة الانتهاكات والنزوح والتشرد. 

“الحرب التي غادرنا مناطق اشتعالها تصر ألا تغادرنا، تحفر في دواخلنا عميقًا وتستقر، نحن نبعد الآن عن سودان الحرب آلاف الأميال، لكن صوت انفجار لإطار عربة  كفيل بإعادتنا إليها مرة أخرى، صغاري يسرعون من أجل الاختباء تحت الأسرة كما كانوا يفعلون في الخرطوم، وحين يقتنعون بأنهم بمأمن عن موت  الخرطوم يعيدون السؤال القاتل (متي  نعود إلى ديارنا وحياتنا وبيوتنا ومدارسنا؟)، أرايت كيف تقتلنا الحرب التي ابتعدنا عنها في اليوم بدل المرة ألف؟”. تطرح سؤالها ثم تنخرط في نوبة بكاء طويلة.

في تتبع آثار الحرب على شريحة النساء السودانيات قد لا ترى دموعهن ولكن بإمكانك أن تتحسسها بصمت، صمت سرعان ما يفضحه سؤال أم عن ابنها الغائب المفقود دون أن تعرف مكانه منذ أكثر من عام، السؤال الذي تتناسل عنه عشرات الأسئلة هل مات؟ أم هو على قيد الحياة؟ كيف مات؟ هل هي رصاصة طائشة؟ أم تدوين مدفعي؟ أم اختطفته  شظايا من ضرب بالطيران؟ هل هو معتقل؟ من يحبسه الدعم السريع أم لدى استخبارات الجيش؟ وهل عجزت احتفالات التحرير أن تعطيني إجابة وحيدة انتظرها.. أين ابني؟ 

من المؤكد أن الصور التي تم التقاطها للنساء المغادرات لمعسكر زمزم بعد مهاجمته بواسطة قوات الدعم السريع تخبر عن واقع النساء في دارفور ممن اضطررتهن الحرب للنزوح، تاركات خلفهن الأزواج والأبناء لمصير مجهول؛ معلوم من الموت بالضرورة، واقع يزداد سوءا بالنسبة للمقيمات في معسكرات اللجوء في تشاد أو الهائمات على وجوههن بحثاً عن الأمان المفقود وسط ظروف طبيعية قاسية وعدم توفر الغذاء. بينما تضيف سيدة للحياة شخصًا جديدًا فهو موت آخر في ظل الشوارع المقطوعة بواسطة أطراف الحرب، وبالطبع غياب الرعاية الصحية للحوامل وإغلاق  المستشفيات أو تدميرها.

بعيدًا عن بيوتهن ولكن عليهن القيام برعاية البيوت وحماية صغارهن وسط المجتمعات الجديدة، والبحث عن وظائف تجعلهن قادرات على توفير أموال الإيجار والطعام والعلاج والتعليم، مقرونًا كل ذلك بغياب الأب أو العائل. “لا خيار سوى العمل حتى أحصل على طعام صغاري”، تقول سودانية مقيمة في ليبيا برفقة صغارها. “لا يهم نوع العمل أو الضغط الناتج عنه طالما أنني أستطيع من خلاله توفير الأساسيات.. ما يؤرقني  هو السؤال اليومي: إلى متى علينا الاستمرار على هذا المنوال؟ تعبنا فهل يشعرون بمعاناتنا؟”. 

يرافقها الحزن كظلها في مشاوير الرهق  اليومي بعيدًا عن الوطن قريبًا منه،    تطاردها الحرب وتختبر مع كل صباح  قدرتها على الصمود، تتناسل منها الأسئلة حين تتردد الكلمات “الديمقراطية، الكرامة، التطهير العرقي، قبول الآخر، الفاشر، أمدرمان، مروي، الطيران، التدوين”.. تنسى كل ذلك وتنشغل بأوجاعها الذاتية. الأخ الذي سقط في الحرب وقالوا إنه كان يؤدي واجبه! أي واجب ذلك الذي يجعل السوداني يقتل أخاه السوداني دون إحساس بوخز الضمير؟ الزوج المفقود. الشبكة التي تحرمها التواصل لمعرفة أخبار أهلها في الفاشر. الفاشر المحاصرة. الوطن الذي هو في كف عفريت و”العفاريت” أكثر من الهم في القلب، أي قلب يمكن أن يحتمل كل الذي يحدث.. كل هذه الندوب. وبنادقهم التي ما تزال محشوة برصاص الموت،  الوطن الذي تحول لندبة وجرح في القلب. والسؤال الذي لا إجابة له لماذا كل ذلك ولماذا علينا أن ندفع الثمن.

تحدثكم السيدة التي نزعوا باب منزلها: “سنعيد بناء الجدار، وسنعيد الباب إلى مكانه، سنرمم كل ما هدموه وسنعود إلى أرضنا التي انتزعتها منا الحرب. لكن قبل ذلك عليهم أن يغلقوا الأبواب التي يدخل بها علينا الموت، عليهم إيقاف العبث بأرواحنا، عليهم التوقف عن انتزاع أرواحنا، عليهم إنهاء عبث انتزاع الأبواب من الجدران والمحافظة على ما تبقى من البناء الوطني.. عليهم إغلاق الأبواب التي يدخل من خلالها الألم والانتهاكات والحزن على نساء السودان”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى