حكاية من بيئتي
جاتك.. يا الرُّز
محمد أحمد الفيلابي
يقال إن فلاناً من الشخصيات البارزة في مجال كذا أو كذا. غير أن صديقنا الغارق في سخريته حين يذكر أنه كان من بين الشخصيات البارزة، فهو يعني أولئك الذين يصارعون للوصول إلى وجهاتهم على متن الحافلات، أو بصات المواصلات الداخلية، ويكون نصيب الواحد منهم نصف قدم بالباب، ومساحة كف للإمساك، فيكون الجسد بارزاً بكامله.
يفوق بروز هؤلاء في حياتنا ما يُحظى به البعض في المجتمعات الصغيرة في القرى والأحياء السكنية، حتى أن البعض تُخلد ذكراهم بما لم يكونوا يقصدونه، فتجد مقولاتهم وحكاياتهم والحكم والمبادئ والمُثُل، وربما الفكاهة المتولدة عنها، بمثابة ملح الحياة الذي لابد منه. يبرزون أطيافاً في جلسات الأنس والمرح، وحين تزيد على الناس قساوة الحياة تجدهم الملهم، والمَخْرج من التحديات.
ولحكمة يعلمها الله تجد في كل منطقة وإن صغُرت جغرافياً، وقلّ سكانها شخصيات تبرز في كل مجال، ما يمثل (وزنة) الكون، وتعدّد وتنوع الأدوار. ما يجعل الحياة ممكنة، و”كلٌ ميسرٌ لما خُلق له”.
هو (سعيد ود عبد الله) يرحمه الله، ولا أحد يردد هذا الاسم الجاد إلا في الأوراق الرسمية، لأنه (الرُّز) وكفى. ويقال أن (رباعته) هم من أطلقوا عليه اللقب لمحبته الكبيرة للأرز المصنوع باللبن الحليب – طبعاً، وقد كان يشكّل ثنائية مشتهاة مع (الزلابية) في أول إفطار صباحي بعد شهر من الصيام، كما كان من أطباق السحور عند الغالبية من أهل تلك المناطق بشمال السودان. تلك العادات التي بدأت تتلاشى مثلما يعمل البعض على أن يتلاشى السودان نفسه بكل ما فيه من خير وجمال.
أشتهُر (الرُّز) بجانب البسطة في الجسم بالمرح والسخرية، يمارس مهنته الأثيرة في بناء بيوت الجالوص بمهارة يحسده عليها البعض. وحين يعلق أحدهم على المهارة والاتقان والسرعة، يردّد درءاً للحسد مقولته “شن الفائدة ما دام الواحد ماشي على قفاه؟”. والشاهد أن البنّاء يتلّقى (درادم الطين) من المُناول بمهارة ودِربة، فيشكلها أمامه ضمن السُرّيقة أو الطوف، وهو يزحف للخلف. وكان (الرُّز) حين يرتفع البناء يتهكّم من المُناوِل بأنه غير قادرة على قذف الطين إلى أعلى إلا حين تكون (الدرادم) صغيرة وخفيفة، وهو ومن معه يكون في سباق مع الشمس، التي إن صعدت لكبد السماء يكون العمل شاقاً على الجميع، لذا تجدهم يبكرون في العمل، بعد أن تكون العجنة قد أعدّت جيداً من الأمس.
في مرة من المرّات جيء بمن ينازل (الرُّز) في القوة، وظل يستجيب لطلبات زيادة المناولة حتى بلغ به الحد أن حمل كل ما كان أمامه، ويقال إنه كان حمولة عربة الطين التي قد تزيد عن العشرين كيلو، وقذفها له صائحاً:
ــ جاتك آااا الرُّز.
وما أن وصلته وتناولها، حتى أفقدته توازنه ليسقط بالحمولة من فرط ثقلها. وأصبحت المقولة من المقولات السائرة، تذكر حين يكون على أحدهم أن يتلقّى ثقل خطب ما، وعليه أن يتلقاه في جلد وقوة شكيمة وصبر، دون أن يسقط. أو تقال حين التنبيه لصدمة ما.
رحمهم الله جميعهم، فقد خلّدوا لنا حكايات ومآثر وحكم، ومبادئ تشي بقدراتهم الفذّة على مكابدة الحياة دون مصارعة لبيئتهم، ودون أن يأخذوا منها إلا بالقدر اليسير الذي يبقيهم على قيد الحياة، وقد أبقوا لنا ما أعملنا فيه أدوات التفريط والإهمال حتى بتنا لا نقوى على تلقّي المناولات، لنسقط هذا السقوط المدوّي.
شيّد أسلافنا بيوتهم الصديقة للبيئة، ومن بيئتهم أكلوا غذاء آمناً كفل لهم عافية في الأجسام والنفوس والقلوب. ما خَبِروا الدروب إلى المشافي كما نحن الآن. وما فتحوا أفواههم إلا ليضحكوا، أو يقولوا ما هو خير، أو يتناولوا طيب الطعام. وما شكَّت أجسادهم إلا الأشواك، وما عرفوا حين الحاجة إلى التطبيب سوى ما جادت به بيئتهم من الأعشاب وخبرات الطب الشعبي. كانوا متساوون في الفقر، لكنهم ينامون الليل ملء أجفانهم. وكان اقتصادهم اقتصاد معيشة. ولهم في الاستخدام الأمثل للموارد حكايات ودروس وعبر.
وجدناهم يبنون بيوتهم من الطين، تلك المادة التي كانت توفر الدفء والأمان لأهلها، البيوت الطين التي لم تكن مجرد مأوى، بل كانت رمزاً للعلاقات الإنسانية الوثيقة والقيم المجتمعية الراسخة، والقلوب الزاخرة بالمحبة والتصافي والتعاون والأخاء، والثقة والاحترام المتبادل. وكان البناء بالجالوص فناً راقياً يتطلب مهارة هندسية راقية، ولياقة بدنية عالية، ويداً ثابتة، وعيناً خبيرة، حتى تستقيم الجدران رأسياً وأفقياً، إن كانت غرفاً أو أسوار.
يعود بناء بيوت الجالوص إلى ماقبل الميلاد – حسب الخبراء في المجال. وفي السودان مازالت بعض القرى والمدن محافظة على البناء بالطين الأكثر تناسباً مع البيئة المحيطة. فقد عمل البعض على خلط الطين بالقليل من الرمل، وأحياناً الحصى. ويضيف البعض القش والتبن وروث البهائم لما له من قدرة على زيادة التماسك، والحصول على بناء مقاوم للتشقُّق والعوامل الجوية. ويحمى البعض بيته من المطر بإضافة طبقة خارجية من روث البهائم تُجدّد كل عامين أو ثلاثة، وتعد وتخمّر بطريقة معينة. فيما تجد البعض من السكان القريبين من الجبال والتلال يضيفون لعجينة البناء مادة جيرية تتضمّن بعض الأحجار الخفيفة القادرة على صد زخات المطر. ومؤخراً بات البعض يضيف طبقة أسمنتية بعد تغطية البناء بشبكة من الأسلاك، أو تقنيات أخرى تمسك بخلطة الأسمنت. وظل (الجالوص) من نتاجات عبقرية الإنسان في تفاعله مع بيئته، ومع عوامل الجغرافيا والتراث والاقتصاد.
تجد من يربط بناء بيوت الطين بخلق الانسان من تراب، صيّره الخالق طيناً، ثم صوره بشراً. ويقال إن الطين هو الوحل، كما أنه الموضع، والخلقة والخُلّة، إذ يقال أن طينة فلان كذا وكذا. ويسمي البعض بيت الجالوص بـ(البيت الكوني) لأنه يُبنى بالفطرة. فقد تلفّت الأسلاف حولهم ووجدوا الطين والشجر، فبنوا بيوتهم الجيدة التهوية، والقليلة التكلفة في ذات الوقت. كما أنه يمكن لغير المتخصصين في البناء المشاركة في إنشائها. فبجانب البناء يكون المناول ومجموعة (الطيّانة) هم فريق العمل. ومن هذه المهنة تولّدت المقولة السائدة “ريّحت البناء والبناول الطين”، ذلك حين يقوم أحدهم بإسدال الستار على معضلة ما.
هناك توجه عالمي للعودة للبناء بالطين لأنه صديق للبيئة، كما أن من خصائص بيت الجالوص أن حوائط المبنى تكون سميكة، مما يجعلها تحتفظ بحرارة النهار وبرودة الليل، ولذلك فهي مناسبة للجو الحار والبارد على حد سواء. ويتميز البناء بالطين بسهولة التشكيل، إذ يمكن للحوائط أن تأخذ أشكالاً مربعة أو مستطيلة، أو دائرية كما هو الأمر في الدَّرادِر (جمع دُرْدُر)، وهو البيت الذي يجمع بين حوائط الجالوص ورأس القطاطي.
في سياق معرفة جذور حضارتنا الإنسانية، التي تشكلت عبر مجموعة من الإبداعات البشرية المرتبطة بوعي بيئي فطري لإشكاليات التطوُّر الفسيولوجي، والروحاني، الأمر الذي ساعد على تحقيق قدر جيّد من استيعاب المقدرة البنائية، وابتكار معمار تداخل بسهولة مع البيئة المكانية، وتصالح معها، وتعانق بصدق مع اللحظة دون تكلّفٍ نحتي، محققاً تقارباً تاريخياً بين مفردات حداثية أفرزتها اللحظة الراهنة لتنتج ما يسمى بـ(العمارة الخضراء)، ذلك المصطلح الذي ظهر في الغرب في مطلع النصف الثاني من القرن الماضي إثر هزائم وانتكاسات بيئية متوالية، والذي جاء ليحقّق نوعاً من المصالحة التاريخية مع البيئة.
خلص بعض الخبراء إلى أن الاتجاه الأخضر في التصميم لم يعد خياراً معمارياً، بل أصبح وفي ظل الأزمات البيئية المتلاحقة خياراً وحيداً، ومقياساً لمدى انتباه المعماري لمعطيات البيئة من حوله. وأن العودة لاستيعاب بناياتنا الموروثة يعتبر أساساً حتمياً للشروع في تكوين مفهوم محلي للعمارة الخضراء، والتي يعرفونها بأنها المنظومة الحيوية التي تستوعب معها جميع عمليات الوجود الإنساني، وفي أهم مظاهر حياته وهو مأواه، حيث يجد الإنسان فيها ملاذه وحماه، في هيئة مبنى يتصالح مع المعطى المجاور، أي البيئة، ليعلن بداية جديدة لعلاقة حميمة مع ما يحيط به دون خصومة ودون عداء.
هل كان بمقدور (الرّز) و(رباعته) إحتمال البقاء في بيوتنا التي تحولت إلى صناديق أسمنتية شائهة، يغطّي أرضياتها السيراميك، وتنفذ عبر جدرانها الرفيعة سخانة شمس الصيف، وزمهرير الشتاء؟
لا أظن!!
ونلتقي في حكاية جديدة من بيئتي.