محمد المكي إبراهيم.. شاعر الأمة السودانية

طاهر المعتصم

 طاهر المعتصم

 

الكتابة عن محمد المكي إبراهيم ليست بالأمر الهيّن، بل هي أقرب ما تكون لمحاولة القبض على الضوء، أو كما قال أبو الطيب المتنبي في وصفه لشعب بوان: “دنانير تفرّ من البنان”. فالرجل موسوعة نابضة بالإبداع، تتقاطع فيها طرائق الشعر والصحافة والدبلوماسية، ويتنقل فيها من أعماق السودان وظلال جامعة الخرطوم في ستينياتها الذهبية، إلى أرخبيلات زنجبار وقرنفلاتها العطرة ، فإلى قلب العالم الجديد في بلاد العم سام.

في عام 1939، أطلق محمد المكي إبراهيم صرخته الأولى في ضواحي مدينة الأبيض، عاصمة إقليم كردفان غربي السودان، وقتها كانت مدافع الحرب العالمية الثانية تهزّ أركان الدنيا. نشأ في تلك المدينة التي كانت، شأنها شأن مدن سودانية عديدة، بوتقة للتمازج الثقافي والتسامح الديني، ومقصدًا لتجار المحاصيل والمواشي من العرب والأوروبيين، حيث تعانق مآذن المساجد أجراس الكنائس في مشهد نادر. ويقول شاعرنا، مستعيدًا حنين تلك الأيام، إنه عمل مع والده في الزراعة وتربية المواشي، ما زرع في وجدانه ارتباطًا أصيلًا بالأرض وتقلبات المواسم.

تلقى تعليمه الأولي في الأبيض، ثم التحق بمدرسة خورطقت الشهيرة، إحدى أعرق ثلاث مدارس وقتها، وهناك بزغت موهبته الشعرية مبكرًا، حيث أبدع في الجمعيات الأدبية. ومن خورطقت اتجه صوب جامعة الخرطوم، طالبًا بكلية القانون في ستينيات القرن الماضي؛ ذلك العقد الذي وُصف بأنه زمن النجوم اللامعة في السياسة والفكر والفن والرياضة، بل وحتى في التمرد، إذ كانت له وسامة تشي جيفارا ومثاليته.

كان السودان آنذاك حديث الخروج من براثن الاستعمار، ولم تمضِ سوى أعوام قليلة حتى تسلّطت قبضة العسكر على الحكم، فأطاحت بأول تجربة ديمقراطية في انقلاب 1958.

في أروقة جامعة الخرطوم، وجد محمد المكي إبراهيم مشهدًا ثقافيًا صاخبًا، وزامَل الشاعر النور عثمان أبكر، ليكونا معا نواة جماعة “الغابة والصحراء”، التي تحوّلت لاحقًا إلى تيار فكري وأدبي بارز، انضم إليهم من غير بعيد محمد عبد الحي، صاحب رائعة “العودة إلى سنار”، وغيرهم ممن سعوا للإجابة على السؤال الأزلي: من نحن؟ في وطن أفريقي تتجذر فيه الثقافة العربية.

ثم اندلعت ثورة أكتوبر عام 1964، وكانت جامعة الخرطوم شرارتها الأولى، مصبوغة بدم القرشي طالب الجامعة وشهيد الثورة الأول. فجادت قريحة محمد المكي إبراهيم بالجزل النادر، وسطع نجمه كأحد شعراء الثورة، وتم تتويجه بـ”شاعر الأكتوبريات”، بقصائده التي خلدت تلك اللحظة الفارقة، وعلى رأسها “أكتوبر الأخضر”، التي لحّنها وأداها بلحنٍ خالد الموسيقار السوداني الكبير محمد وردي (1932–2012)، فارتفعت بها هامات جيلٍ بأكمله، وما زالت تتردد في جنبات الذاكرة الوطنية كل ما حان وقتها.

 

اسمك الظافر ينمو

في ضمير الشعب

إيماناً وبشرى

وعلى الغابة والصحراء

يمتد وشاحًا..

وبأيدينا توهّجت

ضياءً وسلاحًا

وتسلّحنا بأكتوبر لن نرجع شبرًا..

سندق الصخر

حتى يخرج الصخر لنا زرعًا وخضرًا

ونرود والمجد

حتى يحفظ الدهر لنا اسمًا وذكرى…

الحقول اشتعلت

قمحًا ووعدًا وتمنّي

والكنوز انفتحت

في باطن الأرض تنادي

باسمك الشعب انتصر

حاجز السجن انكسر

والقيود انسدلت

جزلة عرسٍ في الأيادي

كان أكتوبر في أمّتنا منذ الأزل

كان خلف الصبر والأحزان يحيا

صامدًا منتظرًا

حتى إذا الصبح أطل

أشعل التاريخ نارًا واشتعل

كان أكتوبر في قبضتنا الأولى

مع المك النمر

كان أسياف العشر

ومع ألماظ البطل

حين دعاه القرشي

حتى انتصر…

في العام 1965 وجامعة الخرطوم تدخل في عطلة طويلة، يغادر داخلية الطلبة هو ورفيقه النور عثمان بابكر ملبيًا دعوة زميلهم محمد عبدالحي للإقامة خلال فترة عطلة الجامعة معه بمنزل جدته، بدلًا عن السفر إلى مسقط رأسيهما، فيستثمروا تلك الفترة في تأسيس تيار شعري جديد هو تيار الغابة والصحراء، ويعكف محمد المكي ذو الخمس وعشرين ربيعًا في تأليف كتابه الأول (الفكر السوداني.. أصوله وتطوره) الذي نشرته (مطبعة ارو التجارية) في طبعته الأولى 1976 والثانية 1989م، يقول الباحث السوداني محمد الجيلاني لكاتب المقال، إنه أول تأسيس نظري لفكر سوداني، ود المكي في كتابه هذا تتبع أصول الثقافة السودانية، الميلاد الحقيقي للثقافة العربية في السودان يبدأ بعهد الفونج 1505-1821.

يقول في كتابه (ولكن هذا لا يعني أن العربية لم تدخل السودان إلا مع ذلك العهد لأنه ثابت أن الثقافة العربية اكتسبت مكانها المشروع بين ثقافات السودان في طليعة الغزو وليس على أعقابه، فقد تسربت مع قوافل الحجيج. وفي إخراج التجار وحقائب الدعاة والمسافرين، وعلى الدوام كان المسجد يقام والأذان يدوي في ممالك السودان المسيحية لتأتي على صداه جحافل الفتح العربي، بل إن تاريخ الثقافة العربية في السودان يضرب في أعماق التاريخ إلى بعد أعمق من ذلك يعود إلى ما قبل الإسلام وإلى أيام الخلفاء الأوائل، ولكن تلك البواكير لم تخرج عن مستوى اللقاء العابر إلى مجالات التأصيل والترسيخ).

كما أصدر «بين نار الشعر ونار المجاذيب – حياة وشعر محمد المهدي المجذوب»، و«ظلال وأفيال»، و«في ذكرى الغابة والصحراء».

خلال سنوات الجامعة، انقطع شاعرنا عن الدراسة، لفترة عام أو يزيد قضاها في ألمانيا، برفقة زميله في تأسيس جماعة الغابة والصحراء الشاعر النور عثمان بابكر، هذه الرحلة بحسب شاعرنا كان لها الأثر البالغ في الانفتاح الإيجابي نحو العالم، وازداد بحثًا في موضوع الهوية، وعند أوبته لاستكمال دراسته الجامعية ونيل إجازة الحقوق، استمرت أعماله الشعرية في الانهمار.

ديوان (أمتي) هو الأول لشاعرنا،، وضم قصيدة (قطار الغرب) التي كتبها إبان فترة دراسته الثانوية في مدرسة (خور طقت)، مستدعيًا فيها الماضي مع الحاضر، راسمًا ملامح الشخوص في رحلة القطار ومصورًا اعتلاجات النفس البشرية، وذلك خلال رحلة القطار من مدينة الأبيض عاصمة كردفان إلى الخرطوم عاصمة البلاد.

اللافتة البيضاء عليها الاسم

باللون الأبيض باللغتين، عليها الاسم

هذا بلدي والناس لهم ريح طيب

بسمات وتحايا ووداع متلهِّب

كل الركاب لهم أَحباب

هذي امرأة تبكي

هذا رجل يخفي دمع العينين بكمام الجلباب :

“سلّم للأهل ولا تقطع منا الجواب “

وارتجَّ قطار الغرب، تمطَّى في القضبان

ووصايا لاهثة تأتي وإشارات ودخان

وزغاريد فهناك عريس في الركبان

 

 ويقول شاعرنا الكبير تنزلت عليه شآبيب الرحمة في لقاء صحفي ((تخلصت من قصائد كثيرة، من بينها قصيدة يعرفها من حولي، وهم مغرمون بها جدًا، تعرضت فيها بالهجاء لشعراء العرب الصعاليك مثل عروة بن الورد والشنفرى الأزدي، والسليك بن السلكة وغيرهم))

 

ثم صدر ديوانه الثاني (بعض الرحيق أنا.. والبرتقالة أنت) الذي غاص في بحار اللغة ليخرج بتعبير (خلاسية)، في اجتهاده في قضية الهوية السودانية بين الأفريقانية والعربية، وذلك في القصيدة التي حمل اسمها الديوان، وهي الأشهر في جيلنا وحتى الآن يتداولها الشباب.

الله يا خلاسية

يا حانة مفروشة بالرمل

يا مكحولة العينين

يا مجدولة من شعر أغنية

يا وردة باللون مسقيّة

بعض الرحيق أنا

والبرتقالة أنت

يا مملوءة الساقين أطفالًا خلاسيين

يا بعض زنجيّة

يا بعض عربيّة

وبعض أقوالي أمام الله

وثالث ورابع دواوينه (يختبئ البستان في الوردة) 1984م، (وفي خباء العامرية) 1988، وهنا أنقل كلمة الشاعر السوداني (حاتم الكناني) في احتفال تكريم منتدى دال الثقافي –رد الله غربته ورد لنا بلادنا التي نحب- والكلمة عن تأثير الديوان على الشعراء.

(((حين وقعت في يدي المجموعة الشعرية (يختبئ البستان في الوردة) للشاعر محمد المكي إبراهيم، كنت في مقتبل الشعر، وكانت ذاكرتي شديدة الحفظ والتأثر والميل إلى تقليد عيون الشعر العربي القديمة والحديثة، ولم تنهض بعدُ قريحتي لتستوعب الخدش الذي تسببت فيه قصيدة التفعيلة من لدن الكأس التي تحطمت لعبد الله الطيب واجتراحات السياب وصلاح عبد الصبور، ونازك الملائكة وقضايا شعرها الحر. كان التقليد حد التمدرس الذاتي على كتابة القصيدة يبرز أولا في كتابتي، حتى أن ذلك ليبدو جليًا حين قرأني أبناء جيلي في الشعر في أوائل الألفية.

والقصيدة لدى شاعرنا محمد المكي شاملة للحسنيين: تحتفي بالبساطة العميقة، وفي قاعها تشكيلة من الكائنات البحرية، وعلى السطح تبدو مرآة الواقع عاكسة وجه الشعر والشاعر والحياة. أزعم أن لي نسبًا شعريًا ينتمي للخؤولة مع قصائد شاعر محمد المكي، والخؤولة، لو علمتم، جنس من الأمومة لكنها مُذكّرة. وأزعم أيضًا أن تأثير (يختبئ البستان) – رغم أنه نقطة من بحر محمد المكي – لم يزل حتى الآن يطبع تصوري الشخصي عن كتابة الشعر. أظن أن أول أثر تركته المجموعة هو عنوانها الخافق بأسرار الوردة:

يختبئ المُعقّد في البسيط، والكثرة في الوحدة، والتنوع في الجنس الواحد، مما أشرت إليه في هذه العجالة الاحتفائية: تختبئ الأشياء في وجودها والأرض في حدودها وتسكن المعاني أسماءها المشجرة. تبدأ المجموعة برثائية رقيقة لأحد أعمدة الشعر السودانية في القرن العشرين – محمد المهدي المجذوب – مرورًا بــ(مدينتك الهدى والنور) – متلبسة بإيقاع المدائح النبوية في السودان – وتنتهي بالقصيدة التي اجْتُرح منها العنوان، وهي تمثيل لفكرة المجموعة وفلسفة الشاعر في الكتابة والنظر إلى الحياة. تساؤل القصيدة الواقع بحرارة:

ستقولون باسم الإله الرحيم انتضينا السيوف

لنعملها في زمان الجهالة وأسائلكم: أين صك الوكالة؟

من أقامك يا حامل السيف ربًا على الناس

والله حي يدبر أمرًا ويمكر مكرًا كبيرًا تعالى))

انتهى حديث شاعرنا (حاتم الكناني)

عقب تخرجه عمل محمد المكي  في مهنة القضاء الواقف لحوالي عام، قبل أن يلتحق بالسلك الدبلوماسي وينتقل إلى وزارة الخارجية، مترقيًا في سلم العمل، متنقلًا في محطات عدة، منها مكتب مندوب السودان في الأمم المتحدة، وفي سفارة السودان بالمملكة العربية السعودية، وفي مملكة السويد، ثم سفيرًا في براغ، وانتقل إلى باكستان، وأخيرًا الكنغو، بعد انقلاب البشير عام 1989 ضيق عليه في عمله، فهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

 

في سبتمبر 2024، أسبل الجفن للمرة الأخيرة بقاهرة المعز التي وصل إليها بعد اندلاع الحرب في السودان.

تعكف لجنة قومية لإقامة ليلة كبرى في الرابع من مايو القادم بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، تخليدًا لذكرى شاعر الأمة السودانية صانع مجدها وموثق معاناتها وانتصارتها، وهو القائل:

من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصرْ

من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدةَ والسيرْ

من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمةْ

جيل العطاءِ المستجيش ضراوة ومصادمةْ٥

المستميتِ على المبادئ مؤمنا

المشرئب إلى السماء لينتقي صدر السماءِ لشعبنا

جيلي أنا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى