الممرضون السودانيون.. أبطال في خط نار الحرب والوباء
استفهامات عالقة
كيف تحولت المستشفيات إلى خطوط أمامية في الحرب السودانية؟
لماذا أصبح التمريض مهنة “جريمة” في سودان اليوم؟
ما مصير الممرضين المختفين مثل “عبد الحميد خميس توفيق”؟
كيف واجه الممرضون أوبئة الكوليرا والحُميات دون موارد؟
أبرز الأرقام والوقائع
12 مايو: اليوم العالمي للتمريض الذي مر دون احتفال في السودان.
مستشفى جبل أولياء: تعرض للنهب والسيطرة من قبل قوات الدعم السريع.
مستشفى النو: أحد آخر المراكز التي يديرها متطوعون في أم درمان.
60%: نسبة الكوادر الطبية التي هربت من السودان حسب تقديرات غير رسمية.
اقتباسات
“وجدت اللابكوت الخاص بي ملطخًا بدماء سوداني كان له أسرة وحلم… وضعت الحرب نهايته”
“الحرب دخلت مستشفياتنا.. لم نذهب إليها”
“حتى الشاش الطبي صار سلعة نادرة”
أفق جديد
على متن قارب قديم تعبر “ماجدة” النيل الابيض نحو الضفة الغربية لم يعد “الجبل” عاصماً لها فقد وصلت قوات الدعم السريع وأعلنت سيطرتها على منطقة جبل أولياء جنوب الخرطوم. مثلها كثيرين تركت ماجدة كل شيء خلف ظهرها لكن شيئا واحدا ظل يشغل بالها؛ المستشفى الخاص بالمنطقة حيث قضت كل عمرها وهي تعمل هناك في مهنة التمريض.. هو آخر مكان غادرت منه مسقط رأسها بعد أن ألقت عليه النظرة الأخيرة. تأكدت من اغلاق الابواب والنوافذ وايقاف الاجهزة الطبية، ومن خلو الأسرة من المرضى في رحلتها نحو الأمان بولاية النيل الأبيض. كانت تعترضها الأسئلة من للناس هناك: من سيحقنهم؟ ومن سيعيد تركيب دربات المحاليل؟ تمنت أن يكون كل ما يجري مجرد كابوس ينتهي مع شروق شمس اليوم التالي.
الثاني عشر من مايو يصادف اليوم العالمي للتمريض في السودان، وهي لحظة يمكن فيها اجترار المعاناة التي قابلت الممرضين والممرضات في بلد تعيش واقع الحرب، ومنذ عامين، ومع المعاناة.. هي لحظة استذكار مواقفهم وصمودهم في وجه النيران دون أن يلقوا عنهم السلاح كانت وقفتهم في خط النار رائعة وطويلة.
“كان علينا أن نخوض حربنا داخل الحرب”. هكذا تقول ماجدة لأفق جديد وهي تستدعي تفاصيل ما جرى لها ولزملائها بعد طلقة الحرب الأولى وما استدعته من معارك كان عليهم خوضها من أجل توفير جرعة دواء لمريض أو تقديم خدمة اسعافية لجريح خصوصاً وان الحكومة رفعت يدها وما كان يصل من علاجات أصبح في عداد المفقودين مضاف لذلك مصاعب التشغيل اليومي غياب الكوادر الصحية “الوقود الكهرباء الدواء” وحتى الشاش الطبي كان علينا مواجهة كل ذلك وتوفير الخدمة خصوصاً وان المستشفى يقع في منطقة كثافة سكانية انتصرنا على كل ذلك لكن في نهاية الأمر هزمتنا قوة السلاح حين وصلت حتى العنابر حتى الحصول على النجاة كان حرب أخرى خرجت أنا بينما بقي مصير أخرين من الكوادر معلق حتى الآن مثل مدير طبي الحوادث في مستشفى الجبل عبد الحميد خميس توفيق الذي لا زال الجميع في انتظار معرفة مصيره دون جدوى.
مع ما سردته “الممرضة” الناجية من الحرب يهزمك حتى سؤالها عن كيف هو شعورها في يوم الممرض السوداني. الحال هنا يغني عن السؤال والحكاية هي مجرد عنوان لكتاب كبير أسمه معاناة الكادر الطبي في السودان من الحرب، ومع الحرب، وبالطبع معاناة شريحة الممرضين الذين وجدوا نفسهم في قلب الحرب.. الحرب التي دخلت مستشفياتهم ولم يذهبوا إليها.. يحكي ممرض عن معاناة من نوع أخر عنوانه استهداف الكادر الطبي داخل المستشفيات أو في الشوارع وعند الارتكازات ورفع التهمة الحاضرة في وجهه بأنه يوالي أحد أطراف النزاع تهمة التعاون ظلت حاضرة. تحدثك أخرى عن الم المستشفى المغلق وعن فقدانها لوظيفتها بعد نجحت الة الحرب في تحطيم المستشفى الذي كانت تعمل فيه. في يوم الممرض السوداني يصف أحدهم حاله بقوله حين وصلت لمكان عملي وجدت اللابكوت الخاص بي ملطخ بالدماء ليست دمي ولكن دم سوداني كان له أسرة وحلم وضعت الحرب نهايتها.
في يوم الممرض السوداني لا يمكنك مشاهدة أي شكل للاحتفال في زمن الحرب صارت عملية استهداف ومهاجمة المقار الصحية عملية ممنهجة أكثر منها عشوائية بحسب تقارير التي أشارت اعتداءات ضد الكوادر الصحية ونهب المستشفيات وهو ما عرقل من تقديم خدمة الرعاية الصحية للاحتفال بيوم الممرض دون عمل. المفارقة أنه لا يوجد من يحتفل فقد ساهمت الحرب في هروب كوادر التمريض من السودان بحثاً عن الأمان بعيداً عن العنف وعدم الاستقرار على المستوى السياسي وبالطبع افتقار بيئة العمل لكل مطلوبات اداء الوظيفة لا مرتبات يتم دفعها من الحكومة ولا توريد للإمدادات الطبية في سودان الطرق المغلقة.
لكن وفي ظل هذه الظروف قرر الكثير من الممرضين الوقوف في خط النار وفي الخطوط الأمامية للقيام بواجبهم في انقاذ أرواح الناس وسط الدمار فعلوا ذلك في مستشفى النو الذي يديره متطوعون كبقعة ضوء وسط ظلامات الحرب في أمدرمان فعلوا ذلك في مستشفيات الولايات التي وصلوا إليها في رحلات نزوحهم. بل واجه بعضهم الخطر في وسط المعارك وقدم الرعاية الصحية للجنود المشاركين في الحرب التزاماً بقسمه اختار الكثيرون البقاء في مدنهم لتقديم الخدمة للمرضى غير مباليين بالمخاطر التي واجهوها بكامل الصمود ولم يغب الصمود عن مواجهة الوبائيات التي ضربت البلاد الحميات “والكوليرا” حيث واجه كادر التمريض في كوستي الوباء متسلحاً بالواجب.
قرر كثير من العاملين في مجال التمريض الانخراط في إكمال رسالتهم والعمل استناداً على ظروفهم الجديدة وهم في بلدان النزوح بعد الحرب وتحديداً فئة الممرضات حيث التحقن بالعمل في الدول التي وصلوا اليها المفارقة هي أن شعار المجلس الدولي للممرضات هذا العام “ممرضاتنا مستقبلنا رعاية الممرضات تعزز الاقتصادات” وهو الشعار الذي حملنه الممرضات السودانيات من أجل تعزيز اقتصاديات الأسر وقامن بهمة الرعاية الاقتصادية لأهلهن في ظل ظروف بالغة التعقيد. وكأنهن يعدن كتابة فداء الأخرين مثلما فعلت الممرضة وشهيدة الثورة ست النفور حين قررت ان تمنح الوطن روحها فداء لسودان الحرية التي تمشي نحو العدالة وبسلام.
في البلاد المنكوبة بالحرب وأزمات الاقتصاد الخانقة وانهيار النظام الصحي ومع صور الدمار الذي شهدته المستشفيات في العاصمة الخرطوم وعمليات النهب الممنهج للأجهزة الطبية وفي ظل عجز الحكومة عن دفع رواتب الممرضين لشهور ومع قصص اليومي التي تخبرك عن أدوار تقوم بها هذه الفئات لا شيء يمكن ان تقدمه غير باقة ورد مكتوب عليها “متشكرين ومقدرين يا ممرضات ويا ممرضين”.