الحرب جسر عودة الديكتاتورية في السودان

 

بقلم: محمد أحمد شبشة

وسط ركام الخراب الذي يبتلع السودان، يبرز خطاب آخذ في التشكّل يحاول حصر الحرب الراهنة في إطار مؤامرة خارجية بحتة، متغافلًا – أو متواطئًا – مع الأسباب البنيوية والانقلابية التي فجّرت هذا الصراع. فبينما تصعّد الولايات المتحدة نبرتها عبر التهديد بفرض عقوبات على السودان بسبب مزاعم استخدام سلاح كيميائي، تتسابق بعض الأقلام المحلية لتقديم الحرب على أنها “معركة تحرير وطني” في مواجهة “غزو أجنبي”، دون مساءلة عن البدايات الفعلية للحرب، وعن الدور الحقيقي للقوى الإقليمية والدولية في دعم الانقلاب الذي مهّد لها.

صحيح أن الحرب السودانية لها أبعاد إقليمية واضحة، ومؤكّد أن أطرافًا أجنبية – من الإمارات وتركيا وإيران إلى جنود وطيارين مرتزقة من جنسيات مختلفة – منخرطة فعليًا فيها. لكن اختزال الحرب في هذا البُعد فقط، وإخفاء مسؤولية النخبة العسكرية السودانية عنها، هو تزييف فجّ للوعي الوطني. بل إن التغافل عن التواطؤ التاريخي لهذه القوى الأجنبية مع الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021، الذي دشّن مرحلة الردة عن الثورة، يُسقط ورقة التوت عن سردية “العدوان الخارجي” التي يُراد لها أن تعفي الجنرالات من المحاسبة.

إن الإمارات، التي يصورها البعض الآن كداعم رئيسي للدعم السريع، هي نفسها التي دعمت الجيش والدعم معًا في انقلابهم على الانتقال الديمقراطي، ومولت قمع التظاهرات، وتملك اليوم مصالح اقتصادية في مناطق سيطرة كلا الطرفين. وكذلك إيران، التي لا يخجل بعض الإسلاميين من تمجيد دعمها العسكري، رغم سجلها الطويل في اختراق الحركات الإسلامية والمساهمة في عسكرة الصراعات الداخلية.

الأدهى من ذلك أن الخطاب السائد محليًا بات يُروّج لفكرة أن الجيش يخوض معركة نيابة عن “الشعب”، متجاهلًا أن هذا الجيش لم يُطهَّر من عناصر الحركة الإسلامية، بل استعاد تحالفه معهم بعد الانقلاب. كما أن هذا الجيش ذاته هو من عقد شراكة مع الدعم السريع لسنوات، قبل أن تتفجّر مصالحهم المتعارضة في صراع دموي.

في ظل هذا التزييف، تتحول الحرب إلى مشروع سلطوي فوقي: تُدار لا دفاعًا عن السيادة، بل لتصفية مسار الثورة، وتحقيق عودة كاملة لحكم العسكر، وتجريم القوى الثورية، وقمع الجماهير عبر التجويع والقصف والتشريد.

إن القرار الأمريكي بفرض عقوبات، بدلًا من دعم مسار حقيقي للسلام والعدالة، يعبّر عن نموذج فجّ آخر للتدخل الخارجي الانتقائي، الذي لا يقل خطرًا عن التورط العسكري المكشوف لبعض القوى الإقليمية. فالعقوبات تُطرح دون تحقيق أممي مستقل، ودون رؤية واضحة للمساءلة الشاملة، ما يجعلها أداة ضغط سياسي في إطار صراع نفوذ دولي، لا آلية لردع انتهاكات.

إن سردية “الغزو الخارجي” حين تُستخدم لتبرئة الجنرالات، فإنها تتحول من أداة لتحفيز الوعي الوطني إلى خطاب تواطؤ. وإن أي موقف ثوري حقيقي يجب أن يرفض الحرب من حيث كونها وسيلة لفرض عسكرة الدولة، لا أن ينخرط في تبريرها أو تجميل أطرافها.

الانحياز الحقيقي يجب أن يكون إلى جذور الثورة السودانية: إلى حلم الدولة المدنية، إلى صوت الضحايا لا البنادق، إلى الحرية والسلام والعدالة، لا إلى خنادق الجنرالات، مهما تلون خطابهم بشعارات الوطنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى