البرهان يحقق مع البرهان… فتعجب
حيدر المكاشفي
ليس من توصيف له غير أنه عبثي يثير التعجب والسخرية، ذاك القرار الذي أصدره رئيس مجلس السيادة الانتقالي، القائد العام للجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، خواتيم الأسبوع الماضي، وقضى فيه بتشكيل لجنة وطنية للتحقيق في الاتهامات التي أطلقتها الولايات المتحدة الأمريكية، بشأن استخدام الجيش أسلحة كيميائية في حربه ضد الدعم السريع، وقالت وزارة الخارجية السودانية في بيان لها حول الموضوع إن (اللجنة الوطنية تضم وزارتي الخارجية، والدفاع، وجهاز المخابرات العامة، للتحقيق في المزاعم الأمريكية)، على أن ترفع تقريرها إلى رئيس مجلس السيادة بشكل فوري. وأضافت أن تكوين هذه اللجنة يأتي في إطار الشفافية التي تنتهجها حكومة السودان، وعدم قناعتها بصحة اتهامات الإدارة الأمريكية باستخدام السودان للأسلحة الكيميائية. وأكدت التزام السودان بتعهداته الدولية، ومنها اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت أنها توصلت إلى خلاصة مفادها أن الجيش السوداني استخدم أسلحة كيميائية في الحرب الدائرة في البلاد. وقالت الخارجية الأمريكية إنها ستفرض عقوبات على السودان، تتضمن قيوداً على الصادرات الأمريكية وخطوط الائتمان الحكومية الأمريكية، وستدخل حيز التنفيذ في السادس من يونيو القادم بعد إخطار الكونغرس.
والشكل الكاريكاتوري الذي يمكن رسمه لقرار البرهان المثير للضحك والسخرية والتعجب، هو صورة للبرهان وهو يجلس على كرسي الرئاسة داخل مكتبه بمجلس السيادة باعتباره الرئيس الضرورة للبلاد، وهو ممسك بقلم لإصدار قرار تكوين لجنة التحقيق في الاتهامات الأمريكية، ثم ينتقل المشهد إلى مبنى آخر مخصص للجنة التحقيق التي كونها البرهان، ويظهر في المشهد أعضاء اللجنة وهم جلوس على كراسيهم خلف المنضدة، بينما يقف أمامهم البرهان بكل تهذيب وأدب، وتشرع اللجنة في التحقيق معه بوصفه قائد الجيش والمسؤول الأول عن الاتهام الأمريكي. هذا بالضبط هو التصوير الحقيقي لتكوين هذه اللجنة، ويستحق هذا الفيلم الساخر أن يحمل عنوان (البرهان يحقق مع البرهان)، فكل أعضاء هذه اللجنة الحكومية الرسمية مرؤوسين للرئيس البرهان بحكم وظائف الميري التي يشغلونها، الأمر الذي يرجح أن الهدف الأساسي من تكوين هذه اللجنة هو دفن الحقائق وليس التحقيق الجدي والحقيقي لكشف الحقيقة، على رأي الشاعر الفطحل المتنبي الذي قال (فيك الخصام وأنت الخصم والحكم)، فالناس اعتادت عند وقوع الخصومات أن تلجأ لمن يقضي في أمر الخصام، فيقرر مَن مِن المتخاصمين على حق ومن منهم على خطأ، ولكن أن يكون من بيده مصير بقائهم في المنصب هو موضع الخصام، وهو الخصم وهو أيضاً الحكم فتلك ولا شك مفارقة مضحكة، وهي المفارقة ذاتها التي أنتجت المقولة الشهيرة للزعيم المصري الكبير سعد زغلول (جورج الخامس يفاوض جورج الخامس)، والحكاية تقول تصادف أن كان جورج الخامس، ملك إنجلترا وإمبراطور الهند خلال فترة ثورة 1919 المصرية، وخلال المفاوضات التى جرت بين الزعيم المصري سعد زغلول واللورد ملنر فى لندن عام 1920، سأل الزعيم المصرى المفاوض الإنجليزى: (من ذا الذى يعين المفوضين؟) فأجاب ملنر: (الحكومة المصرية)، فقال سعد زغلول وقتها: (عدلى معين من قبل السلطان، والسلطان معين من قبل الإنجليز، ومعنى أن يفاوض عدلى الإنجليز أن جورج الخامس يفاوض جورج الخامس). أما إذا جاز لأحدهم أن يجري تنطعًا مقاربة ومقارنة بين لجنة مولانا دفع الله الحاج يوسف، التي كونها المخلوع البشير، في محاولة لامتصاص الاتهامات الموجهة لحكومته من المحكمة الجنائية الدولية، بارتكابها جرائم حرب وإبادة وتطهير عرقي وجرائم ضد الانسانية في دارفور، مع لجنة رئيس الضرورة البرهان، فلا شك أنها أولاً ستكون مقاربة ومقارنة ضيزى وثانياً لأن مخرجات لجنة مولانا دفع الله الحاج يوسف قبرت وطمرت لاحتوائها – رغم إنها لجنة حكومية – على بعض الاعترافات، بأن في دارفور ارتكبت جرائم ضد الإنسانية من قبل الحكومة والجنجويد، ووقعت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان شملت ولايات دارفور الثلاث أدت إلى معاناة إنسانية لأهل دارفور تمثلت في النزوح والتشرد واللجوء إلى دولة تشاد، وأن القوات المسلحة قصفت بعض المناطق التي يعتقد أن بها عناصر من المعارضة المسلحة، ونتيجة لذلك القصف قُتل بعض المواطنين ووقوع حالات إعدامات خارج نطاق المحاكم من قبل الحكومة والجنجويد، وأن حوادث الاغتصاب والعنف الجنسي قد ارتكبت في ولايات دارفور، وأن أغلب الجرائم سجلت ضد مجهولين، ولكن ورغم أن اللجنة لم تقل كل الحقائق في تقريرها وذكرت بعضها بكل شجاعة، إلا أن ذلك لم يعجب المخلوع الذي أرادها لجنة لتبييض الوجه وغسل جرائمهم في دارفور، فعمد إلى (تغطيس حجر) تقرير اللجنة ووأروه الثرى مع ضحايا دارفور، أما لجنة البرهان المذكورة فلا أظنها ستقوى على كلمة بغم، والأرجح أن تقريرها بالبراءة جاهز ومعد سلفًا، كما أن المقارنة معدومة تمامًا بين لجنة مولانا دفع التي تشكلت من (أ) مولانا / دفع الله الحاج يوسف (رئيس القضاء الأسبق) رئيساً، (ب) الأستاذ/ غازي سليمان (المحامي) عضوا، (ج) الفريق (م) حسن أحمد صديق (مدير عام قوات الشرطة الأسبق)، (د) الفريق /السر محمد أحمد (قائد القيادة الغربية الأسبق)، (هـ) الدكتورة/ فاطمة عبد المحمود (عضو المجلس الوطني)، (و) الأستاذ/ حمدتو مختار (رئيس لجنة حقوق الإنسان بالمجلس الوطني)، (ز) الناظر/ محمد سرور رملي ( ممثلًا للإدارة الأهلية) (ح) الناظر / عبد القادر منعم منصور (ممثلاً للإدارة الأهلية)، (ط) ممثل لنقابة المحامين، (ي) الأستاذ فؤاد عيد (إداري سابق) عضواً ومقرراً.. بينما تضم لجنة البرهان الحالية جهات حكومية صرفة ولا يزال أعضاؤها في الخدمة تحت رئاسة البرهان، وهذه الجهات هي وزارتا الخارجية، والدفاع، وجهاز المخابرات العامة.