هاربون من نيران الحرب إلى الجحيم “معانأة السودانيبن في ليبيا”
أفق جديد
لم تكن ليبيا حلم السودانيين، بل المكان الذي دفعهم إليه كابوس الحرب، مجبرين لا مخيرين، وفي القاموس الشعبي السوداني، ليبيا لم تكن سوى “ضياع زمن”، وحدها أزمنة الموت هي ما دفعهم للهرب، بحثا عن الأمان، لا يهم إلى أين يكون المسير، المهم فقط أن نخرج من وسط الجنون المشتعل.
لاحقا اكتشفوا أن هروبهم من الموت لم يكن سوى طريقا إليه، وأن رحلتهم إلى ليبيا كانت بداية لسلسلة من الكوابيس.
في شوارع بنغازي، وعند “زنقات” طرابلس، وداخل أزقة مدن أخرى، يحسب السودانيون خطواتهم، يمشون بحذر، ويترقبون “المجهول” في أي لحظة.
هم ليسوا لاجئين بالمعنى الرسمي، ولا مقيمين بالمعنى القانوني، انهم فقط عابرون، عالقون في بلد يواجه أزماته الخاصة، لكنه وللمفارقة يحملهم تبعاتها، وكأنهم جزء من المأساة، لا ضحاياها.
تزداد معاناة السودانيين في ليبيا؛ أولئك الذين هربوا من جحيم إلى آخر، فكل مأساة لا تنتهي إلا لتسلمهم لأخرى، في سلسلة متواصلة من الألم، بدأت من شوارع مدن آمنة في السودان، ولم تنتهِ في شوارع تنظر إليهم بالريبة في بنغازي والكفرة وطرابلس ومصراتة وسائر مدن الجماهيرية.
في مواجهتهم لواقع صادم، كثير منهم أدرك أن “الفات داروا قل مقدارو”؛ فالموت عطشاً في الطريق نحو ليبيا قد يفاجئهم قبل أن يكملوا الرحلة. لا فرق بين من يموت متفحما في قصف مدفعي، ومن يموت تائها في صحراء بلا نهاية.
الرحلة نحو ليبيا تبدأ من “مثلث الموت” الحدودي بين السودان وليبيا ومصر، في عمق صحراء الشمالية، وهي ليست رحلة بل مغامرة نجا منها القليل.
وهناك، تتناثر جثث بلا أسماء، وأحلام لفظت أنفاسها الأخيرة تحت وطأة الجوع والعطش. ومن ينج من الصحراء، قلما ينجو من عصابات تهريب البشر، حيث لا فرق بين الراكب والشحنة، كل له ثمن. كل يوم يحمل خبرا عن أسرة سودانية تائهة في الصحراء، وغالبا ما تختتم هذه الأخبار ببيان عن إنقاذهم بواسطة الهلال الأحمر الليبي.
رغم المخاطر، لم تتوقف رحلات التهريب اليومية من “المثلث” إلى “الكفرة”، عبر سيارات “البكاسي” والشاحنات الكبيرة. تدر هذه التجارة ملايين الجنيهات والدنانير، وينشط فيها المهربون وتجار البشر، كما لم تتوقف معها عمليات تهريب البضائع.
يدفع السوداني هناك دم قلبه ليصل، ثم يكتشف أن ما وصله هو فقط “رأس جبل الجليد”.يمكن تقسيم الوجود السوداني في ليبيا إلى ثلاث فئات، اولها ” المقيمون قبل الحرب: “سودانيو ليبيا”، وهم من عاشوا فيها لسنوات أو ولدوا فيها.
وثاني الفئات” ال عابرون، وتعرف بـ”جنقو ليبيا”، وهم من يرون ليبيا مجرد محطة نحو أوروبا، وغالبيتهم من الشباب.
واخيرا الهاربون من الحرب، وهم من قصدوا ليبيا بحثا عن الاستقرار بعد اندلاع النزاع في السودان.ورغم اختلاف أوضاع هذه الفئات، فإن القاسم المشترك بينها هو الاستغلال.الفئة الاولى تعيش “غربة داخل الغربة”، بينما يتعرض “الجنقو” للاستغلال من المهربين، نظرا لوضعهم غير القانوني وغياب سلطة الدولة.
أما الفئة الثالثة، التي تضم موظفين وأرباب أسر فقدوا استقرارهم، فيعانون من الاستغلال في السكن والعمل والأجور، ويصطدمون بتوصيف “براني” الذي يستخدمه الليبيون للأجانب.في خضم هذه المعاناة، تبرز حملات الترحيل القسري ضد الأجانب، تحت شعار “ليبيا لليبيين”، وقد شهدت ليبيا ترحيلات شملت التشاديين والمصريين، ولم يكن السودانيون بمعزل عن ذلك. تتم الترحيلات عبر المعابر البرية، بتنسيق مع سفارات الدول، لكن الأزمة ليست في القرار، بل في تنفيذه على الأرض.
توقيف شخص عند إحدى نقاط العبور قد يقوده للاعتقال، أو الابتزاز، دون أن يعرف مكانه، لذلك يفضل كثير من السودانيين البقاء في مواقعهم انتظارا لانتهاء العاصفة، التي ما تلبث أن تعود من جديد.لا أحد يملك إقامة قانونية، فالدولة لا تمنحها، وكرت المفوضية لا يتجاوز كونه “ورقة”، حتى اللاجئون باتوا أداة ضغط في يد الحكومة الليبية تجاه أوروبا، والتي تهدد بدفعهم نحو البحر إن لم تحصل على الدعم.
وها هو الشاب السوداني، بعد أن دفع ماله وسنوات من عمره لمهربي البشر، يجد نفسه في قلب ظلام طرابلس، يتردد في كل خطوة، يخاف من سؤال رجل أمن: “أوراقك؟”، فلا يحمل جوابا، ولا أوراقا، ولا يقينا بأنه سيعود إلى سريره تلك الليلة.
في 12 مايو، عاشت الجالية السودانية في حي “أبوسليم” بالعاصمة طرابلس ليلة رعب إثر اندلاع معارك بعد اغتيال قائد مليشيا دعم الاستقرار، “غنيوة”. كانت تلك ليلة أعادت للسودانيين في ليبيا مشاهد الرعب التي هربوا منها في الخرطوم.
ومع كل ما سبق، يظل الليبيون أقل قسوة من الحرب في السودان، في ليبيا، من أغلق عليه بابه فهو في أمان. لا يطالبك أحد بمفتاح السيارة أو تسليم هاتفك، ولا تنهب البيوت كما في حرب السودان.لكن الجحيم الليبي لا يقل عن غيره، ولا فرص حقيقية، بل فخاخ، من “العمل شاق، العقود نادرة، والحقوق غائبة”، ولا فرق بين من يسقط بالرصاص ومن يسقط ضحية الاستغلال.
ياسر، شاب عشريني من الفاشر، يعمل 12 ساعة يوميا بأجر لا يتجاوز 50 دينارا، يعيش حياة التخفي، يخرج فجرا ويعود بعد المغيب، ويتجنب الطرق الرئيسية والتجمعات. قصته، رغم قسوتها، أفضل حالا من آخرين يعملون في المزارع النائية تحت ظروف قاسية، محرومين من أبسط حقوقهم.
هنا، البحر لا يرحم، لكنه أرحم من بر البشر، يقول شاب سوداني وهو يودع رفاقه: “السمبك بس… لا شيء يغري بالبقاء هنا”. يفضل الموت في البحر على أن يفترسه الاستغلال في البر.في مشهد آخر، سيدة ستينية تكرر سؤالها للمرة العاشرة:”في جديد في موضوع رحلات العودة الطوعية للسودان؟ كفانا هنا… رجعونا نموت في بلدنا.”
صامدون، لكنهم عالقون في نقطة عبور بين موتين: موت في البحر بحثا عن مستقبل، أوموت في الوطن، حيث لا أمن ولا سلام.
بين الخرطوم، مدني، الفاشر، الأبيض، وطرابلس، بنغازي، الكفرة، تسير رحلة السودانيين في دائرة مغلقة، محاصرين بين عالمين لا يعترف أي منهما بوجودهم.
كل ما تبقى لهم، أن يظلوا على قيد الحياة، بانتظار معجزة، قد لا تأتي أبدا.