أوكازيون المليشيات.. (الما عنده مليشيا ما عنده عيشة)

حيدر المكاشفي

 

تلزمني الأمانة في البدء أن أنسب الشطر الثاني من العنوان أعلاه لصاحبه الذي للأسف لم أتعرف على اسمه، يبدو أن صاحب هذا العنوان المعبّر (الما عنده مليشيا ما عنده عيشة) عندما هاله اكتظاظ سوق أم دفسو المليشي بالمليشيات، قرر أن يرتاد هذا السوق العامر ويلحق به مليشيته الخاصة، فكتب يقول (الواحد عشان يحفظ حقه لازم يسمي المليشيا باسمه، ما كمان يا جماعة ما ممكن أنا أتعب وأكوّن لي مليشيا فيها سلاح ومقاتلين وتاتشرات وحرب وموت وأطلق عليها اسم وهمي كدا، لازم تكون باسمي عشان الناس تعرف وتحفظ المقامات والحقوق 

والعِرف يكلم الما عِرف.. الليلة قوات عثمان عبدالجبار، بكرة حا يكون متحرك ستنا بت صالح لتحرير المثلث، وقوات الشفيع ود أحمد لفك الحصار عن الأبيض وتحريرها من دنس التمرد، ما في أي مشكلة الرحم موجود والخصوبة عالية.. والما عنده مليشا ما عنده عيشة).. وقد أعادت حكاية (الما عنده مليشيا ما عنده عيشة) للذاكرة، شعار سابق مشابه لها فحواه (موتر وكلاش.. مال بلاش)، والغريبة أن هذا الشعار كان قد انتشر في وسط حالة من الاضطراب والفلتان والسيولة مثل التي تشهدها البلاد الآن، وتسببت في تزايد أعداد المليشيات، حيث وجد بعض المتفلتين ضالتهم في الدراجة البخارية (موترسايكل) والبندقية الآلية (كلاشنكوف)، واتخذوها سبيلاً ليوصلهم إلى الثراء العريض بأسرع فرصة وأسهل وسيلة، مستفيدين في ذلك من حالة الاضطراب والسيولة التي أفرزتها حرب دارفور، فتأسوا بالمثل السالب الذي يقول (دار أبوك كان خربت شيل ليك منها شلية)، ولهذا صار شعار هذه الجماعة (موتر وكلاش.. مال بلاش).. ليحتل راكب الموتر وحامل الكلاش، مكان الجن الراكب الجواد وشايل جيم ثري، في وراثة عجيبة لتراث العنف والقتل والسطو وإشاعة الذعر وبث الفوضى، وتعاقب أجيال الفواجع والمصائب والمحن التي لا تأتي فرادى، بل محنة تعقبها فاجعة تليها مصيبة وهكذا دواليك، فدلاليك الحروب والصراعات لم تكف لحظة عن الرزيم إلا بالمقدار الزمني الذي يسمح بنقلها إلى مكان آخر، وستظل هذه الكأس دائرة ما ظلت ثقافة الحرب هى السائدة، وثقافة الحرب لا تسود إلا حين تضمر الدولة وتغيب قيمة المواطنة وتصبح المليشيات هى من يأخذ الحق والقانون بيده..

الحقيقة الماثلة اليوم أن المليشيات بعد حرب الندامة ما انفكت تتكاثر باضطراد حتى باتت عصية على التعداد مضافاً إليها المليشيات القديمة، وقد ظللنا بين الحين والآخر نسمع عن تكوين مليشيا جديدة أو تنسيقية جديدة، ولا غرابة فهذا التكاثر المليشي يتسق ويتناغم مع السياق السياسي والعسكري الذي أفرزته الحرب ومؤداه (من أراد ان يستنفع فليكوّن له مليشيا، ومن أراد أن يستوزر عليه أيضا  تكوين مليشيا ليخوض بها حرب الكرامة)، أما المليشيات القائمة أصلاً ووالغة في الحرب فحقها في الاستنفاع محفوظ، وليس بالضرورة أن تكون المليشيا المنتفعة حاملة للسلاح، وانما يمكن أيضا أن تكون كتيبة إعلامية أو فصيلة من المحللين (الاصطراطيجيين)، وهؤلاء حقهم في الاستنفاع على قاعدة (انفع واستنفع) محفوظ كذلك، وقد تجلى ذلك بوضوح في مضاغطة كثير من كتاب البلابسة والفلول لرئيس وزراء (حكومة الأمل) كامل إدريس، بتحذيره تحذيراً مغلظاً من أن يأتي بوزراء لا سهم لهم ولا نصيب في حرب الكرامة، فماذا تُراه فاعل صاحب حكومة الأمل والحوكمة والعلم والحداثة والرقمنة مع هؤلاء البلابسة مع انه هو أيضاً بلبوسي.. والمشكلة ليست فقط في عدد المليشيات المتزايد وانما أيضا في عملية التجنيد الواسعة المستمرة لضم أشخاص جدد، ومنحهم رتب عسكرية مختلفة بغرض (تكبير الكوم)، وقد اسفت لقبول الزميل عطاف عبدالوهاب المنضم حديثاً لمليشيا العدل والمساواة، قبوله رتبة صول فهذه الرتبة المتدنية لا تليق بمن ينتمي للوسط الصحفي، وتنخرط المليشيات في عمليات تكبير الكوم حتى تضمن نصيب أكبر فى كيكة السلطة والثروة، ووجود أكثر داخل القوات النظامية حين يحين أجل عملية الدمج والتسريح، وتعيد هذه العملية إلى المشهد ما سبق أن حدث إبان اتفاقية عام 1972 بين حكومة مايو وقتها وحركة الأنانيا الجنوبية، حيث نشطت الأنانيا في تجنيد الكثيرين، ليتضح لاحقاً بعد استيعابهم في الجيش بأنهم غير مؤهلين لينضموا لأي مستوى من المستويات داخل القوات المسلحة، وحتى لا تتكرر تلك التجربة الكارثية، لابد من حسم ظاهرة التجنيد ال(سمبلا) الذي يتم على طريقة أوكازيون السلع والبضائع قبل البدء عمليا فى تطبيق الترتيبات الأمنية، ولكن للأسف إن هذا التجنيد الجزافي يتم بدعم ومساندة قيادات الجيش التي تشرّف احتفالات التخريج.. وهذا والله أمر مقلق على البلاد، أن لا يمر وقت إلا وتسمع بكيان جديد يعلن التسلح، أو أناس يدعون للتسلح، أو منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تصور للناس أن الحل لأزماتهم هو حمل السلاح. فخلال الأشهر القليلة الماضية احصيت شخصياً الاعلان عن خمسة كيانات مسلحة ترفع شعارات وقضايا جهوية، وتدعو الناس للتسلح بدعوى الدفاع عن أنفسهم، وحماية مصالحهم، وبعضها يلوح بالانفصال. والحقيقة الصادمة ليست هناك إحصاءات دقيقة معلنة وموثقة عن عدد الحركات والكيانات المسلحة في السودان، لكن بعض التقارير تحدثت عن أكثر من 80 حركة، بعضها لا وجود حقيقياً لها على الأرض، لكنها تبقى مهددة للأمن والاستقرار، وعائقاً أمام تحقيق السلام المستدام.. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى