حكاية من بيئتي
بت الطُنْدُببت الطُنْدُب

محمد أحمد الفيلابي
ظن الكثيرون أنها ماتت منذ زمن، فقد تناساها الناس في غمرة انشغالهم بشؤون الحياة الصاخبة، إلى أن أعلن في ذلك الصباح عن تشييع جثمانها. لا يذكرونها إلا بهذا اللقب الذي التصق بها منذ طفولتها، وذلك بسبب شغفها الكبير بتلك الأشجار الغريبة الشكل، بثمارها طيبة المذاق.
وكشأن الكثيرين يبدأ نبش حياتهم بعد موتهم، احتلت سيرة (بت الطندب) (1) الصفحات الأولى من كتاب القرية السري، وجهراً بدأت عمليات سرد ما هو معروف في سيرتها.
هل من الأفضل أن نقول يوم شكرك.. أم يوم ذكرك ما يجي؟ والذي يقصدون يوم موتك، لأنه في الغالب تذكر محاسن الموتى.
جلسوا حول خازن أسرار وحكايات القرية، والشمس تبدأ رحلة الأفول، وكان من العادة أن يشهدوا معه حركة تحوّل الظلال في تلك الساعة من نهارات القرية الساكنة، فعاجلهم..
ــ أين كنتم؟
ــ كنا في تشييع (بت الطندب).
هكذا دون استباق الاسم بأي من الصفات الحميمة (حبوبتنا.. خالتنا.. عمتنا).
ــ ما دائم إلا وجهه.. سبحان الله.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ترحّم عليها وعلى كل من رحلوا، دون أن ينسى نفسه ومرافقيه في ضل الراكوبة الواسعة، ثم وضع مسبحته جانباً إيذانًا بفتح نافذة الذاكرة المتقّدة حتى بعد التسعين.
ــ هي أكبر مننا بأعوام تزيد على العشرة، كنا نودُّها رغم غرابتها. سنة التساب (2)، كنا صبياناً، لكننا لم نكن نجرؤ على السباحة، وقد كانت تضحك مننا، وهي تصارع الأمواج بفستانها الملتصق على جسدها الممشوق. وكان البعض من بيننا يحب أن يراها فيه وهي خارجة من الماء. وكنا في ملابسنا نلتصق ببعضنا خجلاً أمام عنفوانها وتحديها لنا.
ضحك ضحكته الواهنة حين سأله أحدهم..
ــ كم كان عمرك في ذلك العام؟
ــ فوق العاشرة بقليل. وقد قال لي خالي (الزين) أنني ولدت قبل عشرة أعوام من الحرب العالمية، التي شارك فيها، وباتت منطلق حكاياته التي لا نهاية لها.
ــ ألم تتزوج بت (الطندب)؟
ــ تزوجت نوّاتياً (3) من أهل الشمال، كان حين يمر بنا يبقى ليومين أو أكثر في ضيافة والدها المحب لجمع وسرد الحكايات، وأنجبت منه ولداً وحيداً أرسلته للبحث عن والده الذي غاب لسنوات، ليختفي هو الآخر، ولا أحد يعرف لهما مكاناً. لم تتزوج من بعده رغم أن معظم رجال القرية سعوا لخطب ودها، بمن فيهم العمدة بنفسه، لكنها رفضت كل العروض، وظلت في انتظار لظهورهما، (تزازي بالخليات) تجوب الفلوات، تبث همومها وأحزانها للأشجار حتى فقدت بصرها، فركنت إلى دارها.
وبعد أن أطلق تنهيدة استحلبت الضحكات المكتومة حوله، اندفع يرسم صورة غابت عن الأذهان قبل أن تغيب صاحبتها:
كانت جميلة، ممشوقة القوام، حتى بعد أن تقدّم بها العمر، تعشق البرية، تمشي وراء أغنامها في الغابة التي تحرس القرية من ناحية النهر، وبين أشجار الأكاشيا، ومن بينها أشجار الطندب تحيط القرية إحاطة السوار بالمعصم. تحرسها كلبتها الشرسة، وقد كانت تحدثها مثلما تحدّث أغنامها. تلتقط النادر من ثمرات (الحمبق) (4)، التي باتت تسميها بعد زواجها من ذلك الغريب بـ(الكرز)، توزّعها على الأطفال الذين لا يستطيعون التوغل بين الشجار خوفاً من العقرب الطيار.
ومن البديهي أن تجر الحكاية حكايات مصحوبة بتحليلات، شأنها أن تلقي اللوم على الآخرين، دون أن يحس من يطلقها أن له دور في الأمر.
اعتكفت (بت الطندب) في دارها بعد أن فقدت بصرها، وبدأت مذبحة الأشجار لأغراض التوسُّع في البناء، وإلقام كمائن الطوب الأحمر والمخابز بكل ما يقع تحت فأس عُمّال (الخزين) من البدو الذين فقدوا كل أسباب الحياة في الوديان البعيدة، وجاءوا ليقطنوا حول القرى يمتهنون ما يستطيعون، ومن ذاك قطع الأشجار لصالح (الخزين)، النبت الاستثماري المحروس بالسلطة، الذي كان يضحك من مقولتها التي باتت ترددها بلا توقف، وهو يظن أنها تعنيه بها:
ــ البقطع طندبة ربنا يقطع طاريه.
والطاري، هو من يتذكر. والمقولة تعني ألا يعد أحد يتذكر المعني بها.
في تلك الأيام شهدت القرية والمنطقة بأسرها تحولات كبيرة شملت تأثر البدو بالجفاف الذي ضرب البلاد، وانحسار مهنة الرعي، في ذات الوقت الذي تحولت فيه الزراعة من نمط الزراعة المعيشية (5)، إلى الاعتماد على المحاصيل النقدية، في ظل هجرة مكثفة نحو المدينة الكبيرة، وخارجها حيث انفتحت شهية أبناء الريف لمحاكاة إعمار المدن، يغتربون في دول النفط، ومن هناك يأتون بما يشيدون به البيوت التي لا تشبه بيوت القرية، ولا تناسب بيئتها، خاصة في ظل التغيرات المناخية التي بدأت بوادرها تظهر للعيان.
ذلك بجانب ما حدث من تحولات اجتماعية مقرونة بما اعترى النظام التعليمي من علل جعلت من التسرب المدرسي سمة أساسية لذلك العهد، ففي المدينة متّسع لكل من يود أن يبني حياته بالقرية. نعم هناك يعملون ليعودوا إلى هنا يتزوجون باكراً، فتمتلئ الشوارع، والمدارس التي لم تعد كما كانت، والمتاجر في المدينة بجيل كامل (منبت) يحلمون بتحسين اوضاعهم المعيشية، لكنهم يجدون أنفسهم عاجزين عن العودة إلى جذورهم، أو الترقي إلى مصاف أعلى. يجهلون الكثير عن قريتهم حتى أن من تصادف وجوده بالقرية ذلك الصباح لا يعرفون شيئاً عن (بت الطندب)، ولا عن (طيّار صفق الطندب)، المقولة التي تظهر في صفحات الغضب من قاموس القرية، يرددونها لمن لا يودون عودته. تلك الأسطورة التي يربط البعض بينها وبين أسطورة العقرب الطيار. وقد كتب (خال الغابات) الدكتور عبد العظيم ميرغني. (وهذه من عندي فقد أسميته (خال الغابات)، لأن الخال شريك الوالد، وقد سبقه كامل شوقي إلى لقب (أبو الغابات)، ولقبوا ميرغني إبراهيم الذي زرع النيم في المشاعر المقدسة (جد الغابات). فقد اوضح د. عبد العظيم:
“لعل من أكثر العهود ظلمة في تاريخ السودان هو عهد العنج، فالعنج على أهميتهم لا ندري عنهم الكثير وأغلب ما نعرفه عنهم يأتي من روايات شفاهية مقتضبة وعامة. ومن أكثر الروايات الشفاهية تداولاً حول العنج هي رواية فنائهم بفعل “العقرب الطيارة”، التي يقال أنها عاشت في أشجار الطندب وأنها شردت وقتلت الكثير من أهل السودان وأهلكت ماشيتهم وزرعهم. وقد اتضح فيما بعد أن تلكم العقرب الطيارة ما هي في الحقيقة إلا ذبابة التسي تسي التي تسكن الأشجار الشوكية بوجه عام وشجر الطندب تحديداً حيث تضع بيضها في هذه الأشجار. وقد اتضح أن هذه الآفة قد انتشرت في أعقاب إنتشار طاعون البقر الذي قضى على الأبقار ومهد من ثم لانتشار شجر الطندب الذي وفر البيئة المناسبة لانتشار آفة التسي تسي حتى صارت وباء داهم العنج وتسبب في هلاك الكثير منهم وما زال الناس يرون عظام العنج ملقاه في فلوات أواسط السودان”.
في غفلة عن عواقب إفساد النظام البيئي، تمدّد المغتربون في سباقهم المحموم لتشييد البيوت الحديثة التي تشبه بيوت المدن، وإن لم يسكنوها إلا نادراً، مفضلين سكنى المدينة على البقاء في القرية، وإن كانت في الأطراف، ذلك لأن ليس في القرية ما يبقيهم في ظل غياب التنمية المتوازنة. ولن يدرك هؤلاء وأولئك أنهم إنما يفسدون أكثر مما يصلحون، ففساد الذوق المعماري يقابله التخلي عن المساكن البيئية. إذ لا أحد يسأل لماذا كانت بيوت الأسلاف من الطين اللبن؟
أحد البيوت التي احتفظت بطابعها القديم، هو البيت الذي شُيّعت منه (بت الطندب). والغريب في الأمر أن من دخلوا حجرتها ذلك الصباح، وجدوا بجانبها عصاتها وحزمة مساويك، وكلها من حطب الطندب، وتحت (عنقريبها) أعواد من الطندب تتلاحم بما عُرف عن حطب الطندب من إعوجاج لا تجده في سواه من أنواع الأشجار. وقد ذكره (ود بادي) في معرض تغنيه بأحد الفرسان:
“حامد عوج الطندب آاا وليدات
عوج الطندب نار القصب الهبلت ما بتعدلو”.
المقطع الذي يمكن أن يكون الشاعر قد استلهمه من مناحة الشــاعرة بت مسيمس (6) التي مطلعها (الواعي ما بوصـوه). وقد فرض المقطع نفسه عليَّ و(حامد الجامد) أحد أيقونات الثورة (المغدورة) يغازل مخيلات الشباب الثائر، ويُسكّن عميقاً في (حشا) الثورة مقاربات بيئية ذات بعد إنساني.
ونلتقي في حكاية بيئية جديدة.
الهوامش:
(1) الطندب من أشجار البيئات الصحراوية وشبه الصحراوية، لا أوراق لها، يتهمونها بأنها مساكن للجن الذي طرد أوراقها وسكنها.
(2) التساب.. هو فيضان النيل، والمقصود هنا هو فيضان 1946.
(3) النوّاتية هم البحارة، وينادى بها الصيادون وأصحاب المراكب يجوبون النيل ذهاباً وإياباً في رحلات طويلة الأمد، ينزلون القرى للتسوق، ويبني بعضهم علاقات تجارية واجتماعية تمتد.
(4) الحمبق أو الحنبق، أو الحمبك ثمر الطندب. الكرات الوردية قريبة الشبه بالكرز.
(5) الزراعة المعاشية أو زراعة الكفاف هي زراعة تعتمد على الاكتفاء الذاتي، ويركز فيها المزارعون على زراعة الأطعمة التي تكفيهم لإطعام أنفسهم وعائلاتهم. وتشتمل مزرعة الكفاف العادية على مجموعة من المحاصيل والحيوانات التي تحتاجها الأسرة لإطعام وكساء نفسها خلال العام.
(6) هي شاعرة المسلمية التي ذاع صيتها بمدح الزبير باشا رحمة.