حينما تبيع “الأمل” في صفوف الموت وعند زوايا التكايا!
أفق جديد
في بلد تتناسل فيه المآسي من رحم الحرب، ويغدو الحديث عن الغد ترفًا مؤجلًاة، خرج رئيس وزراء السودان المعين كامل إدريس بخطابٍ عن حكومة أطلق عليها اسم “الأمل”، متحدثًا عن التنمية والرفاهية، بينما كانت المدافع لا تزال تكتب فصول البلاد بالدم.
بدا الخطاب، في توقيته ومضمونه، كأنه مرسل من عالم موازٍ، لا يرى الخراب ولا يسمع أنين النازحين، بين واقعٍ ملغم بالحرب والموت، وحكومة لا تزال على الورق، يثور السؤال الجوهري: هل يمكن أن يباع الأمل في زمن الانهيار؟ أم أن ما عرض على الناس كان مجرد وهم جديد يضاف إلى سلسلة الخيبات الطويلة؟
الأمل في زمن الرماد
حين يرفع شعار “الأمل” فوق ركام المدن المدمرة، وتزين المنصات بكلمات ناعمة لا تخفي وراءها إلا الصدى، يبدو الوطن كمن يحاك له حلم من ورق في زمن من نار.
في السودان، حيث تتقاطع الجغرافيا مع الجراح، وحيث الحرب ليست خلفية المشهد بل هي قلبه، خرج رئيس الوزراء المعين كامل إدريس بخطاب وصف بأنه بشرى العبور، لكنه بدا، في أعين كثيرين، مجرد قصيدة باردة تتلى على مقبرة مفتوحة.
في زمن تكاد فيه مفردة “الدولة” أن تمحى من الذاكرة، وفي ظل سلطة تمسك بخيوط الحكم من بعيد، يصبح السؤال عن المستقبل عبثًا دون مواجهة الماضي والحاضر معًا.
وبعد ثلاثة أسابيع فقط من تعيينه رئيسًا للوزراء بواسطة قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، قدم كامل إدريس خدمة ثمينة للمتخصصين في العلوم السياسية، حين جسد – بوضوح نادر – نموذجًا حيًا لفهم أزمة بناء الدولة في السودان.
فقد أبان تناقض صارخ بين تطلعات الشعب الحقيقية وما تطرحه السلطة من قرارات وتصريحات.
من أوروبا إلى بورتسودان
في أول ظهور له من المبنى المؤقت للتلفزيون الرسمي، الذي نقل إلى بورتسودان بعد أن أضرت الحرب بمقره التاريخي في أم درمان، استعرض إدريس ملامح حكومته المرتقب تشكيلها، محددًا أهدافها بنقل السودان نحو التنمية والرفاه، بعيدًا عن الحزبية والمحاصصات الجهوية، وأطلق عليها اسم “حكومة الأمل”.
غير أن الخطاب، الذي رآه كثيرون تهويمًا في عوالم مثالية، خلا من أي إشارة إلى واقع البلاد والحرب المستعرة فيها.
من كوكب آخر
وسرعان ما طرح السؤال: أي أمل ورفاه واستقرار يمكن تصوره في بلد تمزقه الحرب؟ بل، ما مصير حكومة تدار من على بعد أكثر من ألف كيلومتر من عاصمتها؟
وعبر السودانيون في ردود أفعالهم عن سخريتهم بقول بعضهم إن “المتخصص في الملكية الفكرية، القادم من أوروبا، كتب برنامجه الحكومي بمساعدة الذكاء الاصطناعي، ثم أعاد صياغته وطرحه على الشعب”.
أما عمر الدقير، رئيس حزب المؤتمر السوداني والقيادي في تحالف “صمود”، فعلق على خطاب إدريس بالقول: “كأنه كتب لأناس في دولة أخرى، أو ربما للسودان في لحظة غير هذه التي نعيشها الآن”.
بين الوثيقة والرصاصة
الخطاب تجاهل الحقيقة الأكثر إيلامًا ووضوحًا: الحرب المستمرة منذ عامين، وما خلفته من كارثة إنسانية.
إن القفز على هذه الحقيقة ينسف واقعية الوعود التي وردت فيه، فكيف يمكن الحديث عن رفاه واستقرار في بلد غارق في جحيم الموت؟
ثم، كيف يمكن الجمع بين “الأمل” و”الحرب” في وطن واحد؟ سؤال يجر خلفه أسئلة أخرى عن الموارد المتاحة لرئيس الوزراء، وعن مدى واقعية وعوده، وإن كان الأمر لا يتجاوز كونه “بيع كلام”.
حكومة بلا أرض
فبالنسبة للبعض، فإن كامل إدريس يربط حلمه القديم في الوصول إلى المنصب، الذي انتظره طويلًا، بإمكانية تحقيق آمال السودانيين، دون أن يأخذ في الحسبان طبيعة الواقع، أو الكيفية التي صعد بها إلى هذا الموقع، في ظل تحالفات وموازين قوى تجعل منه مجرد خادم في بلاط من عينه.
هذا الواقع يعزز فرضية أنه مجرد “مشرعن” لتسهيل اندماج السلطة الحالية في المنظومات الإقليمية والدولية.
ويبرز هنا سؤال أشد قسوة: كيف يمكن أن يتحقق الأمل على يد من انقلب على الوثيقة الدستورية، وقتل أمل الشعب في الانتقال الديمقراطي، ثم أشعل حربًا دمّرت ما تبقى من أحلامهم، وأفقدتهم حتى منازلهم؟
بعد إسقاط نظام البشير، عقد أمل السودانيين على تشكيل حكومة مدنية، فإذا بالبعض اليوم يطلق هذا الوصف ذاته على حكومة كاملة إدريس، رغم أنها تقوم على وثيقة منقلب عليها، عدلت لاحقًا بما يمنح العسكر السيطرة على السياسة الخارجية، والبنك المركزي، والأجهزة الأمنية والعسكرية.
*أي أمل وأي زراعة!
تحدث رئيس وزراء عن المستقبل، متجاهلًا الواقع الذي يقيد أي خطوة نحو الأمام كما بدأ للكثيرين، الحرب المستمرة ومواجهتها بإستراتيجية أمنية، تقتل أمل الناس في الحياة، ناهيك عن التقدم أو الازدهار.
إن تتحدث عن الغد، عليك أولًا أن تكون قادرًا على إدارة اليوم، ومع ذلك، لم يتمكن إدريس من إعلان تشكيل حكومته حتى الآن، بسبب المتاريس السياسية والتجاذبات داخل سلطة بورتسودان.
ومن المفارقات، أن بعض حركات اتفاق جوبا تصر على حصصها في “حكومة الأمل” بدعوى الحفاظ على السلام، بينما لا يتحدث رئيس الحكومة ذاته عن السلام!
منابر بلا سلام
في ذهن كامل إدريس، الأمل يعني حكومة تدار بمعايير الشفافية والنزاهة على النمط الأوروبي الذي عاش فيه، أما في أذهان ملايين السودانيين، فالأمل يعني ببساطة: استعادة الحياة، العودة إلى البيوت التي هجروها قسرًا.
يصعب للكثيرين بحسب المراقبين أن يصدق الناس هذا النوع من الخطابات، وهم يقضون نهارهم في طوابير شحن الهواتف، وطوابير المياه، وطوابير الطعام في التكايا.
كما أن الأمل يبدو مستحيلًا في بلد لا تستثمر فيه حتى الزراعة رغمًا عن جودة أراضيه واتساعها ووفرة المياه، وقد زرعت الحقول بالألغام بدلًا من البذور.
صوت التكايا أعلى
الأمل الوحيد الذي ينشده الناس اليوم هو وقف الحرب، نحتاج إلى رئيس حكومة يملك الجدية، يشعر بآلامنا، يدرك أنه لم يبق في جسد المساكين موضع لطعنة جديدة.
كما قالت سيدة الأمين التي عادت إلى منزلها في الخرطوم فوجدته خرابا: “من يتجاوز آثار ما نعيشه اليوم، لا يمكنه أن يصنع الغد، ولا يليق به أن يحدثنا عن الأمل.”
ما لا يقال في بورتسودان
في مساحة لا تتجاوز عشرة كيلومترات، بين الفندق الذي يقيم فيه إدريس في بورتسودان ومكتبه، يحاول بيع “الأمل” لشعب مشرد، نصفه خارج البلاد، ونصفه الآخر جائع وسط نيران الحرب، يفتقر لأبسط الخدمات، ويواجه القصف بالطائرات والمسيرات.
يحدث أهل الأبيض عن الأمل، وهم محاصرون بالموت، ولا يدري إن كان أهل الفاشر سمعوا خطابه، أم ضاع وسط أصوات الدانات. ولا يملك إجابة عن سؤال: ماذا يقول لأهل جبال النوبة عن “الأمل”؟ أو لأولئك الذين غادروا بابنوسة وتركوا ديارهم للحرب؟
لكنه في المقابل، يقرأ تعليقات الناس على خطابه في الفضاء الافتراضي، ومن بينها من كتب: “تهويمات رئيس الوزراء ستشغل الناس عن حرب الكرامة وحسمها.”
الأمل الحقيقي
وفي حديثها لـ”أفق جديد”، أعربت أبرار الحليو، الطالبة في قسم العلوم السياسية بجامعة النيلين، عن أملها في العودة إلى مقاعد الدراسة، لإكمال المنهج، لا من أجل الشهادة فحسب، بل لفهم كيف تتحقق آمال الشعوب في الحياة.
وهو أمر بسيط: أن توجد حكومة تقدّم الخدمات، لا أن تغرقهم في وعود لا يمكن تحقيقها.
فالاستقرار، والرفاه، والديمقراطية، والشفافية، لا تُولد في مواسم الحروب.