(لص) ماركيز ومسيح آخر الزمان

 

علاء الدين بشير

شاركني أخي وصديقي الصحافي سابقًا والسفير حاليًا، المعتز أحمد إبراهيم، نصًا قصصيًا قصيرًا ونادرًا للروائي الكولومبي الراحل والحائز على جائزة نوبل للآداب، جابرييل غارسيا ماركيز بعنوان (لص يوم السبت)، قد تجده عزيزي القارئ منشورًا بإحدى صفحات هذا العدد من (أفق جديد).

 كانت الساعة تجاوزت الواحدة بعد منتصف ليلة الجمعة عندنا في الخليج حينما وصلتني القصة. ومع أنني كنت منهمكًا فى تسقّط أخبار التطورات المتلاحقة في الشرق الأوسط، لكني أفردت مساحة من الوقت لقراءة النص سريعًا.. ياااه.. يا لهذا الرجل الشيق الذى سحرنا وأخذنا تحت تأثير طيلسانه لنقع في حب لص تسلل إلى مخدع امرأة وطفلتها ليلًا للسطو، فإذا بماركيز يسطو به على مشاعرنا ويقلب طاولة الحدث إلى قصة اختطاف وجداني نفذها على طريقة العشاق.. كشف لنا أن (أوغو) لم يكن لصًا وإنما نور يختبئ في الظلام ويتسلل وئيدًا إلى شغاف (آنا) مقدمة برامج الموسيقى الإذاعية ليدغدغ وحدتها وتستسلم له!

حفزتني المتعة والمعاني المعبأة في قنينة النص الماركيزي الفخيم وأخذتني إلى الكيبورد فخرج الوارد في هزيع الليل الأخير بهذه الخربشات ..

 

كنت قد شاهدت قبل سنوات فيلمًا أمريكيًا رائعًا يحكي عن واقعة لص تُشابه سردية هذه القصة مع اختلاف طفيف في التفاصيل، أو ربما كان تحويرًا معاصرًا للنص الماركيزي هذا، إذ لم أنتبه كعادتي لكاتب النص السينمائي. ولربما اقتحمته التفاصيل  بسبب المعالجة الدرامية وبهارات السينما.. نسيت اسم الفيلم حاليًا ..

استرجعتني شخصية (أوغو) إلى تأمل مقولة شاعرنا الكبير محمد المهدي المجذوب  في قصيدته (ليلة المولد):

أايكون الخير في الشر انطوى..

وهي مقولة عرفانية لها أصل فى النصوص النبوية ودقائق معاني القرآن وأسرار الألوهية..

في بعض شطحات الصوفية يسمى مسيح آخر الزمان (باللص). وهو فعلًا كذلك يسبي الأفئدة ويخطفها على غرار ذلك الذي تحكي عنه الأهزوجة الفلكلورية السودانية:

أنا في نومي بتقلّب وحرامي القلوب تلّب

و(أوغو) هو إلمامة نورانية تنزلت في عالم ماركيز الروائي من ومضات مسيح آخر الزمان.. المسيح المحمدي سليل بيت النبوة.. انظر إلى لطفه اللطيف مع (باولي) طفلة (آنا) وملاعبته لها ومجاراته الفطرية لبراءتها حتى تعلقت به.. والأطفال صادقين فى مشاعرهم ولا ينافقون ..

 العادية والتلقائية التي جعل ماركيز (أوغو) يتصرف بها فى حضرة (آنا) صنعت منه شخصًا آسرًا جدًا.. يطبخ كطاهٍ فرنسي يتذوق الموسيقى (أرقى الفنون عند الأستاذ محمود) بإحساس عالٍ ويناقش فيها بعمق ومعرفة مع (آنا)، الأمر الذي نمّ عن حس وذوق رفيعين.. ثم مراقصته لها كنبيل أرستقراطي وانجذابها إليه ثم حالة الصمت التي رانت عليهما والغمر العاطفي الذي احتوشهما.. ومع ذلك استعصم (أوغو) بالطُهر ولم يُرسل نفسه إلى الغواية.. وعند أولياء السودان (الرجل الصالح يألفنه النساء والصيد) أي يطمئنن له ولا تجفل لرؤيته الطرائد.

وأخيرًا تركه ما اجتهد له وخرج من أجله مخاطرًا في الليل، طائعًا مختارًا بـ(نبل همباتي)، وتفضيله ما وقر في القلوب على كنز الجيوب.. ثم إسدائها النصح بكيفية تجنبها اللصوص .

(أوغو) الذي يزور في الظلام كان مرسالًا إلهيًا لمقدمة البرامج الموسيقية في الإذاعة (آنا)، وتجلٍ رمزى لفكرة النور المتدثر بتلافيف الظلام يلهمها الحكمة العرفانية أن (الخير فى الشر انطوى)، وأن الحب الحقيقي يغسل ويدلق عسل المعمدين.. (ترتر عجلها اليشرق عسلها) على قول مادح السادة السمانية.

ومن لطائف قصص الصالحين في هذا الخصوص واحدة عن  ذلك اللص الذي اقتحم دار السيدة رابعة العدوية متخفيًا من مطارديه الضامرين قتله فى ثلث الليل الداجي، وكمن تحت فراشها وكانت هي قائمة في ذلك الوقت تناجي حبيبها، فأمنت العدوية روعاته وجعلت بينه وبينهم سدًا من الغشاوة حجبت عنه أبصارهم.. وقد  اُخبٍرت بأن أحد أقطاب الحضرة النبوية انتقل إلى الرحاب العلية وطُلِب منها ترشيح آخر فمدت يدها في الظلام وأمسكت باللص فخرج من تحت فراشها مُعمدًا وليًا صالحًا كاملًا.. وفي تراث الأماديح الصوفية السودانية مدحة (الهبرو ملو) للشيخ الجميعابي تحكي عن هذه المغسلة الصوفية لأدران التائبين :

 تركـــوا العللــو كم وسخانين ليهم غسلــــــــو

 فركــوا الكسلـــو قالوا اللالـوب ضايقين عسلو

 جلســوا احتفلـــو جابو الكان طالع فــوق جبلو

 صـادوا غسلــــوا أصبح مبسوط وناكر أهلــــو

ومن سرديات الجمهوريين واحدة يحكيها صاحبها القامة السامقة نفسه عليه رضوان الله وهو فى برزخه الإلهي حاليًا: إنه قبل التزام طريق النبي عليه الصلاة والسلام كان (همباتي) بالليل وحفار آبار بالنهار.. وأثناء كدحه نهارًا سمع وهو في غيابة الجُب الذي يحفره أحد الإخوان من الخارجين فى حملة الدعوة وتوزيع الكتب يناقش شخصًا آخر عن كيف أن بعث لا إله إلا الله حارة فى صدور النساء والرجال يمكنها إحداث التغيير وبسرعة في عصرنا الحالي، كما فعلته مع أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في القرن السابع، وأثناء النقاش سقط منه كتاب (طريق محمد) للأستاذ محمود فالتقفه الذي بغيابة الجُب غير مُليم وخرج به مغسولًا من أوضاره ومن الصالحين.

من الحكاوي المروية بكثرة عن الأستاذ سعيد الطيب شايب، تلميذ الأستاذ محمود الأكبر التي يريد التأكيد بها على معاني النبل والإنسانية وأصائل الطباع عند الشعب السوداني، قصة ذاك اللص الذي (تلّب) على أحد البيوت ليلًا ووجد امرأة (نفساء) وابنها الطفل ذي الخمس سنوات.. فاتجه مباشرة للدولاب وهي تتابعه بنظراتها فأخذ يجمع الملابس وما خف حمله وغلا ثمنه.. فقالت المرأة لطفلها:

قوم ساعد خالك ده يا ولدي!!

 فتأثر اللص بعبارتها تلك أيما تأثر وقام بإرجاع كل ما جمعه إلى الدولاب، ثم أخرج مبلغًا من المال وحشره حشرًا تحت وسادة المرأة (النفساء)، وحلف عليها حلفانًا مغلظًا أن تقبل (حق اللبن) وخرج!!

وقد عبر عن هذا الغسل الصوفي العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي بقوله:

 دار سلمى ما دار فيها كثيف قط إلا وناله تلطيف

الأستاذ محمود نفسه قال إن مهدي آخر الزمان الذى سيرأس الحكومة التنفيذية لكل العالم، ويكون نائبًا للمسيح المحمدي (هو رجل من عامة الناس يصلحه الله في ليلة) .

كان ماركيز فى اجتراحه لشخصية (أوغو) يجسد قول النابلسي فى قصيدته (القساقيسا) :

 فالكل فى بحر نور اليثربي سرى

 موجًا ارته رياح القرب تأنيسا

 

كانت (لص يوم السبت) نصًا ماركيزيًا عظيمًا كعادة الكولومبي الواقعي السحري في تدبيج الروائع، وجاءتني على غرار حكاية (قبل النوم) .. كما بأخيرة مجلة ماجد على عهد البراءة النضرة.

albbabiker@gmail.com

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى