“عرس” في سرادق عزاء مفتوح
أفق جديد – الزين عثمان
في مشهد أثار جدلًا واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي، أقامت تيارات إسلامية في السودان ما يعرف بـ”عرس الشهيد” احتفاء بمقتل مهند فضل، أحد قادة مليشيا “البراؤون” وأمين الثقافة بالحركة الإسلامية، خلال مواجهات مع قوات الدعم السريع في كردفان.
المشهد أعاد إلى الأذهان ممارسات تسعينيات القرن الماضي، حين كانت السلطة تحوّل سرادق العزاءات إلى مهرجانات دعائية تمجد الموت وتستثمر في دماء الشباب.
وبينما اعتبره الإسلاميون تأسيسًا جديدًا لمشروعهم، رآه آخرون عودة مكشوفة إلى خطاب الحرب والدم بعد أن أسقطتهم ثورة ديسمبر.
سؤال الصبية: ماذا يعني “عرس الشهيد”؟
“شنو يعني عرس شهيد؟” سؤال طرحته صبية سودانية على صفحتها في “فيسبوك”، وهي تتبع اتجاهات “التريند”. لكن في زمن التريند، يصر إسلاميو السودان على السير عكس اتجاه التاريخ، بمحاولتهم معاودة كتابة تاريخهم بالدم، كمن لم ينسَ شيئًا ولم يتعلم شيئًا. تعود الحركة الإسلامية السودانية للتحليق في عوالمها الخاصة، محاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
من تسعينيات الحرب إلى كردفان اليوم
في مشهد بدا وكأنه منقول من تسعينيات القرن الماضي، حين كانت حرب الجنوب تلتهم أرواح الشباب بينما يردد لسان السلطة “هل من مزيد”، أقامت تيارات إسلامية في السودان “عرس الشهيد” احتفاءً بمهند فضل، الذي قتل في مواجهات مع قوات الدعم السريع بكردفان.
مهند، أحد قادة كتيبة “البراؤون” وأمين الثقافة بالحركة الإسلامية، صوِّر كأيقونة جديدة لشهداء “معركة الكرامة”.
غير أن معارضين اتهموه بأنه كان جزءًا من ترتيبات حرب هدفها إعادة الإسلاميين إلى السلطة بعد أن أسقطتهم ثورة ديسمبر.
“عرس الشهيد”: أداة دعائية قديمة
إقامة “عرس الشهيد” ليس جديدًا؛ فقد كانت إحدى أبرز أدوات المشروع الإسلامي في تسعيناته الأولى. بعد أن حولت الإنقاذ حرب الجنوب من صراع سياسي إلى حرب دينية، استثمرت في تفويج الشباب إلى الجبهات.
ولكي يكتمل الاستثمار كان لا بد من آلة دعائية تشرعن الموت، وهنا برزت ظاهرة “أعراس الشهداء”.
تحولت سرادقات العزاء إلى مهرجانات تدفع المزيد من الشباب إلى المعارك. مئات الشباب وآلاف الأسر دفعوا الثمن. والمفارقة أن زعيم الحركة الإسلامية آنذاك حسن الترابي نفسه عاد لاحقًا ليقول إن قتلى حرب الجنوب ليسوا شهداء، بينما مضى الجنوب في سبيله كدولة مستقلة، تاركًا خلفه مشاهد “ساحات الفداء” شاهدة على الحقبة.
عودة أشباح التسعينيات
في عزاء مهند الفضل، عادت أناشيد التسعينيات الممجدة للموت، وعاد معها “التكبير والتهليل” من أصحاب اللحى البيضاء والجلاليب الناصعة. ذكرت المشاهد كثيرين بـ”لوثة” التسعينيات حين كانت البلاد تمجد الموت أكثر من الحياة، وتفرض الحروب بالمزيد من الحروب، فيما تحولت قيادات الصف الأول إلى رموز للثراء الفاحش، والإعلام الرسمي إلى بوق للحرب قبل أن يصفق للسلام لاحقًا.
ثوار ديسمبر: الموت لا يساوي الحرية
يقول أحد الديسمبريين: “يبدو أن الإسلاميين نسوا أن الرصاص الذي حصد الأرواح في المواكب ارتد لينغرس في أحشاء من أطلقوه أول مرة في ميادين حرب كرامتهم المفترضة”.
ويضيف: “لا يمكن مقارنة ثراء الموت بثراء الدعوة للحرية والسلام والعدالة. هناك فرق. لكن ما لا يمكن تجاوزه هو أن تجار الدين لا يغيرون سلوكهم ولا خطابهم ولا سياساتهم”.
خطاب الحرب: محاولة إنعاش مشروع ساقط
يفسر محللون عودة الإسلاميين لهذا النهج بأنه جزء من الخطاب الإعلامي للحرب، غايته إعادة الزخم لمشروع قضت عليه ثورة ديسمبر.
يقدم الإسلاميون أنفسهم كـ”مخلصين” وحماة للحمى، ثابتين في مواجهة المليشيات. لكن المفارقة أن المنصة التي تسوق لهذا الخطاب هي ذاتها مليشيا أيديولوجية ملطخة بالدماء.
الإعلام المحسوب على الإنقاذ سارع لتصوير مقتل مهند ورفاقه كتأسيس جديد لمسيرة “الجهاد والفداء”، وربط صمود “معسكر المدرعات” في الخرطوم ببطولاتهم، بينما ترافقت الرواية مع أناشيد وفيديوهات تعد بالعودة “بالدم والفداء”.
حرب الكيزان للعودة إلى السلطة
في المقابل، يرى آخرون أن ما يجري ليس سوى حرب الكيزان من أجل العودة، تحت ستار الكرامة وخلف عباءة الجيش. لكنهم لا يعيدون إلا الزمن الأسود: “عرس الشهيد”، وشرطة النظام العام، وقمع الحريات، والمتاجرة بالدين والدم. عودة تعني عزلة دولية، عقوبات اقتصادية، وحروباً أهلية جديدة.
مأتم وطن كامل
ما جرى عقب مقتل مهند كان بمثابة “تيرمومتر” لقياس حضور الكيزان في المجتمع. لكن الحقيقة أن ما فعلوه لم يكن سوى الرقص في أعراس ضحاياهم من الشباب المغسولة أدمغتهم بمعسول الكلام، فيما أبناؤهم ينعمون بالعيش في الخارج.
عادوا ليرقصوا في مأتم وطن كامل، يدفع شعبه ثمن حرب لم يجْن ذنبًا فيها. ينقلونه من مشاهد المعارك الدامية إلى مشاهد الرقص في سرادق العزاء، على أنغام الموت والدم، في سبيل العودة للنهب والإفقار.
الحقيقة التي لا تغيب
يشعلون الحروب ويحرمون الأمهات من حق الحزن الطبيعي، يقيمون “أعراسًا” لشهداء جدد دون أن يقدموا جوابا لأهالي من أقاموا لهم أعراس حرب الجنوب. لكن الخارطة الناقصة تجيب كاملة: إنهم تجار دين ووطن ودماء، ولم ولن يتغيروا.