الاقتصاد البرتقالي في السودان: من فكرة جديدة إلى فرصة للإحياء بعد الحرب
بقلم: عمر سيد أحمد O.sidahmed09@gmail.com
خبير مصرفي ومالي مستقل
إبداع يقاوم الخراب
يدخل السودان عامه الثالث منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، وقد خسر الكثير من مقومات الدولة الحديثة: مدارس مدمرة، جامعات مغلقة، مسارح خاوية، واقتصاد يترنح تحت وطأة الانهيار. وفيما تركز الأنظار على الذهب والنفط كمصادر للتمويل، يطلّ خيار آخر لم يُطرق من قبل: الاقتصاد البرتقالي، أو ما يُعرف بالاقتصاد الإبداعي.
هذا المفهوم يقوم على تحويل الفنون والثقافة والإبداع إلى قوة اقتصادية حقيقية، بحيث تصبح الموسيقى، السينما، الحرف اليدوية، المحتوى الرقمي، وحتى الأزياء، مصادر للدخل وفرص العمل، فضلًا عن كونها أدوات لإعادة بناء الهوية الوطنية
الإبداع ليس ترفًا بعد الحرب… بل قد يكون طريق السودان نحو الإحياء
متى بدأ الاقتصاد البرتقالي؟
رغم أن جذور الفكرة تعود إلى ما يُعرف بـ”الاقتصاد الثقافي” منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن المصطلح ذاته ظهر حديثًا في مطلع العقد الثاني من الألفية. فقد تبنّى البنك الأمريكي للتنمية (IDB) المفهوم في كتابه المرجعي عام 2013 بعنوان «الاقتصاد البرتقالي: فرصة لا متناهية»
اختير اللون البرتقالي لأنه يرمز عالميًا إلى الإبداع والطاقة الثقافية. ومع الثورة الرقمية في التسعينيات وصعود الإعلام الجديد تحوّل الاقتصاد الإبداعي إلى قطاع متكامل قادر على المنافسة في الأسواق العالمية.
الأهمية الاقتصادية عالميًا
بحسب تقارير اليونسكو (2021) تساهم الصناعات الإبداعية بما يفوق 3% الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتوفر أكثر من 30 مليون وظيفة. والأهم أنها من أسرع القطاعات نموًا، مدفوعة بالتحولات الرقمية والطلب المتزايد على المحتوى الثقافي والفني.
في نيجيريا، أصبحت صناعة السينما (نوليوود) ثاني أكبر صناعة سينما في العالم من حيث عدد الأفلام المنتجة سنويًا تساهم بأكثر من 2% من الناتج المحلي وتشغّل أكثر من مليون شخص. أما في المغرب، فإن الصناعات الثقافية تمثل حوالي 7% من عائدات السياحة. هذه الأرقام تؤكد أن الثقافة لم تعد مجرد ترف، بل قطاع اقتصادي فعّال.
الصناعات الإبداعية تسهم بـ 3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتوظف أكثر من 30 مليون شخص.
السودان: تراث غني وموارد مهملة
يمتلك السودان واحدًا من أعمق الأرصدة الحضارية والثقافية في المنطقة: من أهرامات مروي وآثار نبتة، إلى فنون دارفور وأغاني الطمبور، والنسيج النوبي. لكن هذا الإرث ظلّ مهمشًا بفعل الإهمال المؤسسي والإنفاق الهامشي على الثقافة لعقود طويلة.
الحرب الأخيرة عمّقت الجراح. فقد قُطعت الدراسة عن ملايين الطلاب، ودُمّرت المسارح والمراكز الثقافية، وتوقفت معظم الفعاليات الفنية. تقارير اليونسكو (2024) تشير إلى أن 70% من المؤسسات التعليمية والفنية تأثرت مباشرة أو غير مباشرة بالحرب. ومع ذلك، ما يزال الإبداع حاضرًا في الاقتصاد غير الرسمي، من الحرف اليدوية التي تقودها النساء، إلى الموسيقى الشعبية التي تحافظ على روح المقاومة.
لكن غياب التمويل والسياسات التنظيمية حرم هذه الطاقات من التحوّل إلى صناعة منظّمة قادرة على المنافسة محليًا وعالميًا.
70% من المؤسسات التعليمية والفنية في السودان تأثرت بالحرب
دروس من نيجيريا إلى دبي
تُظهر التجارب الدولية أن الاقتصاد البرتقالي يمكن أن يكون محرّكًا للتنمية بقدر ما هو أداة للحفاظ على الهوية.
- نيجيريا: نوليوود مثال ساطع، حيث صنعت السينما قوة اقتصادية واجتماعية وثقافية، تساهم بأكثر من 2% من الناتج المحلي.
- المغرب: إلى جانب مهرجانات الموسيقى مثل «موازين» و«كناوة»، هناك أيضًا «مهرجان أصيلة الثقافي» الذي صار منصة عالمية للفنون التشكيلية والأدب والشعر منذ السبعينيات، وجذب أدباء وفنانين من القارات الخمس، ما جعل الثقافة أداة دبلوماسية بقدر ما هي اقتصادية.
* الإمارات: أنشأت مناطق حرة متخصصة مثل «مدينة دبي للإعلام» و«حي دبي للتصميم»، لتصبح دبي مركزًا إقليميًا للإبداع والإعلام.
- مصر: كرّست قوتها الناعمة لعقود عبر السينما والدراما، مما جعلها قوة ثقافية عربية لا تضاهى.
- . إثيوبيا: وظّفت الموسيقى الحديثة والتراثية لتعزيز الهوية الوطنية والتماسك الاجتماعي بعد الصراعات.
- إسبانيا: تحولت برشلونة ومدريد إلى مراكز للإبداع عبر الاستثمار في التصميم والفنون والموسيقى، وأسهمت المهرجانات الدولية في تعزيز السياحة الثقافية.
- إيطاليا: موطن الموضة (ميلانو) الأوبرا( لا سكالا) والسينما (فينيسيا) مهرجان البندقية السينمائي لا يزال حتى اليوم قوة ناعمة اقتصادية وثقافية.
- . فرنسا: رائدة في تحويل الثقافة إلى سياسة دولة، من مهرجان كان السينمائي إلى صناعة الأزياء الباريسية، ما منحها قوة ناعمة عالمية.
- . كولومبيا: من أوائل الدول التي دفعت بالمفهوم إلى السياسات الوطنية، وألهمت العالم عبر أدب غابرييل غارسيا ماركيز لتصبح الثقافة وسيلة لإعادة تقديم صورة كولومبيا عالميًا.
وعلى المستوى العالمي، تظل الصناعات الإبداعية مصدرًا لأكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي وتوظف عشرات الملايين، وفق اليونسكو.
نوليوود النيجيرية تشغّل أكثر من مليون شخص وتساهم بـ 2% من الناتج المحلي.
خارطة طريق للسودان
لكي يتحوّل السودان إلى لاعب في الاقتصاد البرتقالي، هناك خطوات لا بد منها:
- الاستثمار في الشباب عبر برامج تدريبية في الفنون، التصميم، البرمجيات، والإنتاج الإعلامي.
- إحياء التراث وتوظيف الرموز الحضارية مثل مروي ونبتة في السينما والتصميم والأزياء.
3 . تأهيل البنية التحتية: إعادة بناء المسارح، المراكز الثقافية، ودور السينما، وتطوير الإنترنت والكهرباء المستقرة.
- صندوق وطني للصناعات الإبداعية يقدم قروضًا ميسرة وضمانات للمشروعات الناشئة.
- حوافز وتشريعات: حماية الملكية الفكرية، إعفاءات ضريبية وجمركية، وتبسيط تسجيل الشركات الثقافية.
- دور البنوك والقطاع الخاص: عبر منتجات تمويلية جديدة وصناديق استثمارية ثقافية.
- شراكات دولية: مع اليونسكو، البنك الدولي، والاتحاد الأفريقي لتوفير الخبرات والتمويل
أكثر من اقتصاد… مشروع وطني
ليس الاقتصاد البرتقالي مجرد قطاع اقتصادي جديد، بل مشروع وطني لإعادة صياغة الهوية السودانية. الموسيقى الشعبية، المسرح الجامعي، الأفلام التوثيقية، والمعارض الفنية يمكن أن تصبح جسورًا للوحدة والمصالحة الوطنية.
كما أنه أداة للقوة الناعمة، تمنح السودان صورة إيجابية عالميًا وتجذب الاستثمارات والسياحة.
خاتمة
في بلد يشكل الشباب أكثر من 60% من سكانه، لا يمكن تجاهل الطاقة الكامنة في الإبداع. الاقتصاد البرتقالي يمنح السودان فرصة نادرة لإعادة الإعمار على أسس جديدة: لا تقوم فقط على الإسمنت والطرق، بل أيضًا على الأفكار والخيال والهوية.
إنه ليس ترفًا ثقافيًا بعد الحرب، بل قد يكون طريق السودان نحو الإحياء
في بلد يشكل الشباب أكثر من 60% من سكانه، يصبح الإبداع المورد الأكبر غير المستغل.