زيارة خارج التوقيت: الأفندي كامل إدريس وأخطاء قراءة المشهد الإقليمي

د. عصام عباس
قام رئيس وزراء السودان كامل إدريس، في النصف الأول من أكتوبر 2025، بزيارة إلى دولة إريتريا وصفها بأنها “زيارة تاريخية”، غير أن مضمونها السياسي ومخرجاتها الفعلية توحي بعكس ذلك. فبعيداً عن التصريحات البروتوكولية، تبدو الزيارة محدودة الجدوى من الناحية الاستراتيجية، بل ومثيرة للجدل في توقيتها وسياقها الإقليمي الحساس. فإريتريا، التي تُعد من أكثر الأنظمة انغلاقًا وفشلًا في العالم، تعاني عزلة سياسية واقتصادية حادة، وتحتل مراتب متقدمة في مؤشرات الفساد السياسي وانتهاك حقوق الإنسان، فضلًا عن انهيار اقتصادي متواصل وتراجع في علاقاتها الإقليمية والدولية. فوفقًا لمؤشر مدركات الفساد والحوكمة (CPI) في العام 2024 جاءت إريتريا في الترتيب 173 من 180 دولة تم تقييمها على مستوى العالم، بينما ظل تقديرها في درجة متدنية وفقًا لقياس مؤشر التنمية البشرية (HDI) بتقدير 0.493 فقط. اقتصاديًا، فإن 58% من الإريتريين يعيشون في فقر مدقع في حين وصل الدين العام لهذه الدولة الفقيرة حوالي 211% من الدخل القومي.
ورغم محاولة إدريس، من خلال هذه الزيارة، تحقيق اختراق دبلوماسي يعزز حضوره الإقليمي بعد جولاته الخارجية غير الموفقة مؤخراً، فإن اختياره لإريتريا كمحطة جديدة يثير تساؤلات جدية حول تقديرات القيادة في حكومة الأمر الواقع ومخاطر التعاطي الساذج في بيئة متفجرة.
السياق الإقليمي: تصاعد التوتر بين إثيوبيا وإريتريا
تعيش منطقة القرن الأفريقي، ومنذ أمد ليس بالقصير، توترًا وصراعًا يخفت أحيانًا ثم تشتد وتيرته أحيانًا أخرى. أطل أكتوبر 2025 وهو يحمل مؤشرات تصعيد متسارع بين الجارتين، إثيوبيا وإريتريا، ويعكس جذورًا تاريخية معقدة وصراعات جيوسياسية متشابكة. فقد كشفت وثائق رسمية، أبرزها رسالة من وزير الخارجية الإثيوبي جيديون تيموثيوس إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، عن اتهامات لإريتريا بالتواطؤ مع فصيل متشدد من جبهة تحرير شعب تيغراي (TPLF) للتحضير لهجوم على الأراضي الإثيوبية، وقد شملت الاتهامات تمويل وتدريب ميليشيات “فانو” في إقليم أمهرا، تمهيدًا للسيطرة على مدن استراتيجية مثل “ولديا”.
إريتريا من جانبها نفت الاتهامات، ووصفتها بأنها “ادعاءات استفزازية” تهدف إلى التغطية على إخفاقات الحكومة الإثيوبية في تنفيذ اتفاق بريتوريا للسلام (2022). كما رفضت جبهة تحرير تيغراي المزاعم نفسها، مؤكدة أن ما يجري “حملة تشويه” لإخفاء الانتهاكات في شمال إثيوبيا.
قراءة جيوسياسية للتوتر
الأبعاد الداخلية في هضبة الحبشة
تسعى الحكومة الإثيوبية إلى توظيف الاتهامات ضد إريتريا كأداة لتعزيز التماسك الداخلي في ظل اضطرابات متنامية في إقليم أمهرا المجاور للسودان وتيغراي المرتبط بالصراع مع إريتريا. فمع تراجع التحالف مع ميليشيا “فانو”، واحتدام الأزمة الاقتصادية، تحاول الحكومة إعادة توجيه الخطاب القومي نحو هدف استراتيجي وهو الوصول إلى البحر الأحمر، لا سيما إلى ميناء عَصَب الإريتري. هذا الطموح البحري يعكس حاجة إثيوبيا الحيوية لمنافذ تجارية بحرية، لكنه في الوقت نفسه يُقرأ من الجانب الإريتري على أنه تهديد وجودي للسيادة الوطنية.
أما إريتريا، فإن نظامها يرى أن الخطاب الإثيوبي الأخير يمثل محاولة لتبرير عدوان محتمل. فإريتريا، التي لطالما تبنت سياسة انعزالية وتحالفت مع دول لها تاريخ من الصراع مع إثيوبيا مثل مصر، تعتبر أن جارتها تسعى لإعادة فرض هيمنتها التاريخية على البحر الأحمر. على المستوى الداخلي، يوظف النظام هذه الاتهامات لتغذية الخطاب القومي وإظهار البلاد في صورة “الضحية”، ما يعزز قبضته الأمنية ويصرف الأنظار عن أزماته الداخلية.
الأبعاد الأمنية
يحمل هذا التوتر مخاطر أمنية مباشرة، إذ تمتد الحدود بين البلدين لأكثر من 1000 كيلومتر، وشهدت مراراً اشتباكات عنيفة. الاتهامات الإثيوبية بدعم مجموعات مسلحة في أمهرا قد تمهد لحرب بالوكالة، ما يهدد بانزلاق المنطقة مجدداً إلى دوامة من العنف. إنسانياً، أي تصعيد عسكري سيؤدي إلى موجات نزوح جديدة شبيهة بما حدث في تيغراي عام 2022. على المستوى الإقليمي فإن تجدد الصراع في المنطقة سيهدد أمن منطقة القرن الأفريقي غير المستقرة أصلًا مما سيضيف مزيدًا من التعقيدات على أمن البحر الأحمر أحد أهم الممرات التجارية والأمنية العالمية، ومن المحتمل جر دول كبرى للانخراط في هذا الصراع بصورة أو بأخرى.
زيارة كامل إدريس بين الخطأ في التوقيت وسوء التقدير
في هذا السياق المأزوم، تبدو زيارة كامل إدريس إلى أسمرا خطوة محفوفة بالمخاطر، كما أن السلوك غير البروتوكولي الذي بدر منه ورفاقه بالهتاف بحياة الرئيس أسياس أفورقي يرسل إشارة إلى الطرف الآخر حول موقف السودان من الصراع المحتمل، ويضع حكومة بورتسودان في الموقف الخطأ بين طرفين متنازعين لهما تأثير مباشر على أمنه القومي. فالاقتراب من نظام أفورقي في هذا التوقيت قد يُفسَّر إقليمياً كنوع من الانحياز لإريتريا ضد إثيوبيا، ما قد يضر بعلاقات السودان مع أديس أبابا، ويضعف فرصه في الانفتاح أفريقيًا خاصة ولإثيوبيا ثقل أفريقي ودولي كبير على النقيض من إريتريا التي تعاني من الحصار وتكاد تكون منبوذة إقليميًا وعالميًا.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الزيارة لا تحمل مكاسب اقتصادية ملموسة، في وقت يواجه فيه السودان تحديات داخلية معقدة تتطلب تركيزاً على إصلاح الاقتصاد الداخلي بدلاً من الانخراط في ملفات إقليمية شائكة. إريتريا واحدة من أفقر الدول في العالم، مع اقتصاد يعتمد على التعدين والزراعة المحدودة، ومعدل نمو منخفض، ودخل قومي إجمالي لا يتجاوز 2.1 مليار دولار أمريكي (2023)، مقارنة بدخل السودان الذي كان يتجاوز 34 مليار دولار قبل الحرب في 2023.
عسكريًا، لا أتوقع تاثيرًا ملموسًا لصالح الجيش السوداني. فالجيش الإريتري من الجيوش الضعيفة وفقًا إلى تقرير مؤسسة غلوبال فاير باور (Global Firepower) لعام 2024. فقد جاء ترتيبه في المرتبة 120 (التصنيف شمل 145 دولة) والمرتبة 26 إفريقيًا. فهو يعاني من نقص في التدريب الحديث والمعدات المتقدمة ولا يستطيع توفير ولو بعضًا من احتياجات السودان التي قد تشمل أسلحة ثقيلة وطائرات ودعماً لوجستياً لمواجهة تمرد مليشيا الدعم السريع.
ختامًا
يمكن القول إن زيارة إدريس إلى إريتريا جاءت في الزمان والمكان الخطأ. فبينما تشتعل المنطقة بالتوترات، وتتصاعد الاتهامات بين أديس أبابا وأسمرا، كان الأجدى لحكومة الأمر الواقع تبني سياسة حياد تركز على مصالح السودان بدلاً من المغامرات الدبلوماسية الفطيرة والهشة. إن الوضع الراهن في القرن الأفريقي متوتر للغاية، ويحتاج إلى حوار استراتيجي إقليمي يعيد بناء الثقة بين الأطراف المتصارعة، ويضمن استقرار البحر الأحمر باعتباره شرياناً حيوياً للتجارة والأمن.
أما السودان، فعليه أن يعيد تقييم تحركاته الخارجية وفق مبدأ “تجنّب الانحياز والتعاطي الحكيم”، لا سيما في ظل ما تشهده المنطقة من تغيرات سريعة واحتمالات تصعيد كبيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى