أغنية العودة للسودان:
السر السيد
جاء تذوقي لهذه الأغنية، ضمن ورقة بحثية بعنوان: (أغاني حرب 15 أبريل في الفترة من 15 أبريل 2023 إلى أكتوبر 2024)، حاولت فيها الكشف عن محتوى هذه الأغنيات وأثره في تأجيج الحرب من جانب، وفي الرغبة في إنهائها من جانب آخر، وعن موقع شعرائها وشاعراتها، ومغنييها ومغنياتها، في تجربة الغناء السوداني الحديث، وعن المجالات التي تحركت فيها وكذلك عن الجهات التى تقف وراء إنتاجها، وقد اعتمدت على الأغنيات التي بُثّت في وسائط التواصل الاجتماعي.
في هذا الحيز سأسلط الضوء على أغنية (العودة للسودان)، للشاعر أمجد حمزة والمغنية نادية الطيب، والأغنية تقع في مجال ما يمكن تسميته، (أغاني الحلم بالعودة).
عن الأغنية:
هي من كلمات وألحان الشاعر أمجد حمزة، صاحب الشهرة الكبيرة منذ سنوات وصاحب عدد مقدّر من الأغنيات التي أنتجت في الفترة موضوع الدراسة، أما المغنية فهي الفنانة الشابة نادية الطيب. على مستوى الأسلوب الشعري يمكن القول إن الأغنية تقع ضمن نمط الشعر الغنائي السوداني المديني السائد، مع ملاحظة أنه لا يلتزم بقافية واحدة، حيث تنتظم قوافيه بما يشبه الدائرة بلازمة تترد مع كل مقطع وهي:
لمتين
قاعدين
لمتين
أما أسلوبها اللحني فينهض على إيقاع (النوبة)، كما أفادني الفنان والموسيقار الشاب محمد آدم.
في المحتوى:
يتشكل الحقل الدلالي للأغنية من مفردات دالة هي: (راجعين، بيت، حوش، غربة، همّك، أمك، خالك، عمك، اشتقت، وحَشك، قراصة، دمعة، دفعة، شارع، نيل، اتذكر، مشتاقين، البوابة، مشتاقة، خايفة، العود، والربابة، الموت، الخوف، بلدنا.. إلخ).
هذه المفردات الدّالة مجتمعة وبتآزرها مع عنوان الأغنية “العودة للسودان” والأسلوب اللحني القائم على إيقاع النوبة، والحضور الواضح للكورس وصلة هذا بالتصوف الذي هو أكبر مشتركات السودانيين، تمثّل احتجاجًا عامًا على الحرب بما هي حرب دون التعرض لمشعليها كما في أغنيات أخرى، وهى بهذا المنحى لا تحكي قصص المتحاربين وإنما تحكي قصص وأحلام ضحايا الحرب، الذين هنا هم الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق.. الأغنية تتحرك في فضاء تقاطع (الذاكرة مع الهوية)، ولهذا السبب نجد ذاك الحضور للأمكنة، “أمدرمان، البوابة، شارع النيل، بحري”، مع ضرورة أن نضع في الاعتبار، أن هذه الأمكنة تأخذ موقعها في الأغنية كدلالة للسودان كله بحسب عنوان الأغنية. تنفجر الذاكرة في مسار آخر للهوية وهو الطعام كواحد من أكبر التحديات التي يواجهها اللاجئ عادة فتقول:
وفطورنا القراصة ودمعة”. ثم تذهب فى ضخ الحمولات العاطفية التي تتوفر عليها عادة العلاقات الحميمة مع (الأم، الخال، العم، الشلة، الدفعة)، وما بينهم من رحلات وجلسات وجولات ومؤانسات، وحيث هنا تتأكد مرارة الاقتلاع عن الديار ووحشته وتوحشه، ليُصبح حلم العودة حتى وإن كان تكلفتها الموت تأكيدًا على أن أي حياة خارج بيتك، وحوشك، وأكلك وناسك هو الموت عينه.. هو التنفس فى الاختناق.
(العمر انحنا متين ضامننو
والخوف الموت الما دايرنو
نرجع لبيوتنا أخير لينا
الموت واحد والخوف سبعين).
أما الذي لفتني على مستوى الصورة وكان خلّاقًا جدًا هو خلو المكان الذي تم فيه تصوير الأغنية من كل ما يشير إلى الاستقرار، فنحن نرى الأم “المغنية” وطفلها في فراغ مكاني عريض، ليس هذا فحسب، وإنما نرى كذلك انقسام صورة “المغنية” إلى صورتين فى الكوبلي:
(أتذكّر وتمسكني الوجعة
يا دفعتى والله مشتاقين).
بل إلى عشرات الصور فى الكوبلي:
(لمتين
أنا خايفة ومندسة
الموت واحد وكلنا ميتين).
فى دلالة على انقسام الذات وتبعثرها وتشظي الهوية.
هذه الأغنية بما أنها تحكي معاناة اللاجئين السودانيين فى دول العالم المختلفة والنازحين فى مدن وقرى السودان، حيث لا أمن ولا خبز ولا علاج ولا تعليم، إنما تمثل صوتًا قويًا في الدعوة الي إنهاء الحرب، بالضرورة لا إمكان لعودة آمنة والحرب، مشتعلة فالأغنية هنا تعبّر عن احتجاج ناعم ولكنه قوي مفاده أننا نتمزق ونشتاق إلى أصدقائنا.. إلى أهلنا الذين تبعثروا فى كل واد ونشتاق إلى بيوتنا وأماكننا.. الى أطعمتنا.. إلى ذكرياتنا، بل نشتاق إلى التئام ذواتنا، واستعادة أرواحنا.