صراع الفرقاء السودانيين: النزعة الرغبوية والفجور في الخصومة
د. عصام عباس
مدخل
دأب منتقدو تحالف القوى المدنية “صمود” على اتهامه زوراً وبهتاناً، بأنه الذراع السياسي لقوات الدعم السريع، وهو اتهام يفتقر تماماً إلى أي دليل، ولا يعدو كونه شكلاً من أشكال الفجور في الخصومة الذي لازم الممارسة السياسية في السودان كلما احتدم الصراع بين الفرقاء.
غير أن من الواجب ابتداءً أن نقرّ بحقيقة ثابتة لا لبس فيها: الانتماء إلى الدعم السريع أو الاصطفاف خلفه جريمة وطنية وأخلاقية قبل أن تكون جريمة جنائية. فهذه المليشيا تلطخت أيديها بدماء الأبرياء، ونهبت ممتلكات المواطنين، واعتدت على مؤسسات الدولة من بنوك ومشافٍ وجامعات ومراكز بحثية وغيرها، وسجلها يفيض بالانتهاكات بحق النازحين والمدنيين. إنها جريمة كاملة الأركان ضد الوطن والإنسانية.
وفي المقابل، فإن الانتماء إلى الحركة الإسلامية أو نصرتها بأي صورة من الصور لا يقل خطراً، إذ هو خيانة للدين والمجتمع والقيم، قبل أن يكون فعلاً سياسياً. فالحركتان الدعم السريع والحركة الإسلامية، وجهان لعملة واحدة، يجمعهما فساد الغاية والممارسة.
لقد أنشأت الحركة الإسلامية مليشيا الدعم السريع لتكون قوة موازية للجيش السوداني، ولتستخدمها كأداة بطش عند الطوارئ، حتى وصفها المخلوع عمر البشير بـ”المخزون الاستراتيجي”، في إشارة صريحة إلى دورها المتوقع في مواجهة أي تمرد عسكري أو انتفاضة شعبية. هذه النشأة وحدها تكشف عن انعدام ثقة الإسلاميين بالجيش الوطني، وعن نزعتهم لصناعة قوة ذات طابع قبلي وجهوي، أغدقوا عليها المال والامتيازات، وغرسوا في عقيدتها الولاء الأعمى لقائدها بدلاً من الولاء للوطن.
هذه المقدمة ضرورية لفهم طبيعة النهج السائد في إدارة الخلافات السياسية بالسودان، حيث تحلّ التهم الملفقة محل الحجة، والتشويه محل النقاش، في ممارسة بلا أخلاق ولا سند.
الحركة الإسلامية والدعم السريع: خلاف مرحلي وتلاقٍ مستقبلي
دبّ الخلاف بين الحركة الإسلامية السودانية وقوات الدعم السريع نتيجة تباين المصالح وتآكل الثقة المتبادلة، بعد أن كانت العلاقة بينهما في بداياتها قائمة على التحالف والاحتضان. فالحركة الإسلامية، منذ عهد نظام الإنقاذ، هي التي رعت نشأة مليشيات الجنجويد التي تطورت لاحقًا إلى قوات الدعم السريع، واستخدمتها كأداة لقمع التمرد في دارفور، وحماية النظام من أي تهديد داخلي. غير أن الصعود الكبير لمليشيا الدعم السريع وتضخم قوتها العسكرية والمالية بعد سقوط نظام البشير عام 2019 خلق معادلة جديدة. فقد تحولت من ذراع باطش تديره الحركة الاسلامية إلى قوة سياسية وعسكرية مستقلة تنازعها النفوذ داخل الدولة. ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، رأى الإسلاميون أن فقه المصلحة الذاتية لتنظيمهم يستوجب الاصطفاف إلى جانب الجيش السوداني، ليس لأجل الدفاع عن الدولة كما يزعمون كذبًا، بل خوفًا من مشروع الدعم السريع الذي بدا وكأنه يسعى إلى إعادة تشكيل السلطة على أسس مغايرة، وربما إقصاء الإسلاميين من المشهد كليًا. ومن هنا تحولت العلاقة من حميمية إلى عداء مستحكم، غذّته الحملات الإعلامية المتبادلة والاتهامات بالعمالة والفساد والخيانة. ورغم هذا التصعيد الشكلي، فإن عودة التحالف بين الطرفين ليس أمرًا مستحيلاً إذا توفرت أسباب براغماتية كظهور تهديد مشترك، أو إذا اقتضت ضرورات الميدان تلاقي المصالح من جديد، فالتاريخ السياسي السوداني يشهد بأن الصراعات والتحالفات بين القوى الفاعلة كثيرًا ما كانت مؤقتة، وتخضع لمنطق موازين القوى لا لمنطق القطيعة النهائية.
الدعم السريع والبحث عن الشرعية
عندما بحث الدعم السريع عن غطاء سياسي، لم يجد ضالته في قوى الثورة، رغم محاولاته مغازلتها بادعاء أنه يقاتل من أجل المدنية. لذلك أسس تحالفاً هزيلاً باسم “قمم” سرعان ما تلاشى، ثم لجأ إلى إنشاء تحالف آخر هو “تأسيس”، الذي ضم بعض الحركات المسلحة (الحركة الشعبية شمال، وبعض حركات دارفور الموقعة على اتفاق جوبا) إلى جانب شخصيات مدنية. هذا التحالف كان هو الذراع السياسي المعلن للدعم السريع، حتى أنه بلغ به الأمر إلى إعلان حكومة موازية في مواجهة حكومة بورتسودان، في خطوة خطيرة هددت وحدة السودان وتماسكه.
تحالف صمود: الاتزان الوطني ونضج الرؤية
أما تحالف القوى المدنية “صمود”، الذي يواجه – دون سواه – العداء المستحكم من الإسلاميين، فموقفه المعلن واضح: لا تقارب مع الدعم السريع، بل رفض صريح لأي مشروع يهدف لتفكيك الجيش السوداني أو تقويض وحدته. صمود يساند إعادة بناء جيش قومي بعيد عن الولاءات الأيديولوجية، ويرفض تعدد الجيوش، ويقف على مسافة واحدة من طرفي الحرب، داعياً إلى وقفها فوراً. إنه موقف يعكس نضجاً سياسياً واتزاناً وطنياً، ورغبة صادقة في إنهاء الكارثة التي ألمّت بالسودان.
تتمثل غايات صمود في إيقاف الحروب الدائرة في السودانK وإنهاء دوامة العنف عبر إحلال سلام شامل وعادل ومستدام، ومعالجة ما خلّفته من آثار إنسانية كارثية عبر حماية المدنيين وتمكينهم من العودة إلى مدنهم وقراهم وجبر أضرارهم. كما تسعى إلى بناء دولة سودانية جديدة على أسس عادلة ومنصفة لجميع المواطنين، واستكمال مسيرة ثورة ديسمبر والثورات السودانية السابقة لتحقيق أهدافها في ترسيخ الحكم المدني الديمقراطي. وفي هذا السياق، تقف صمود بصرامة ضد المؤتمر الوطني وحركته الإسلامية وواجهاتهما، عبر تفكيك بنية نظامهم القديم وهزيمة مخطط حربهم الراهنة ومنع عودتهم مجددًا للهيمنة على البلاد. وإلى جانب ذلك، تعمل على التصدي لخطابات الكراهية والعنصرية والتقسيم، ونشر خطاب وطني متسامح يعكس التعدد والتنوع الحقيقي للسودان، مع التوجه الجاد لمعالجة الجذور التاريخية للأزمة الوطنية بما يفتح الطريق أمام مستقبل أكثر استقرارًا وعدالة.
الفجور في خصومة تحالف صمود لم يقف عند حدود الإسلاميين، بل انساق خلفه بعض الطامحين سياسياً، فقد ردد الفريق عبد الرحمن الصادق المهدي، الذي سعى في سياق خلافاته داخل حزب الأمة إلى ترديد نفس الأكاذيب التي يروجها الإسلاميون عن تحالف “صمود”. وهو المسار ذاته الذي سلكته بعض الكيانات المصنوعة على أعين إعلام بورتسودان، بلا سند جماهيري ولا قاعدة شعبية.
أكذوبة فقدان السند الشعبي
ينساق بعض الرغبويين في تصديق ادعاء الحركة الإسلامية بأن القوى المدنية فقدت شعبيتها، وكأن الساحة قد غدت حكراً على الإسلاميين وميليشياتهم في نهج تحليلي ساذج، يتجاهل حقائق التاريخ القريب: ألم تحتشد الحشود المصنوعة لمقابلة البشير في عطبرة حتى توهم أنه السيد المطاع ولوح بعصاه ظانًا أنها عصا موسى، وأطلق عبارته الشهيرة “نحن جينا بالقوة ومن أراد الحكم فيقابلنا في الميدان”، ثم لم تمضِ أيام حتى كانت ذات المدينة وذات الحشود هي نواة اقتلاعه؟ وكيف يمكن قياس الشعبية في ظل إعلام موجه وأجهزة أمن تحاصر لجان المقاومة، وقضاء مسيّس يصدر مئات أحكام الإعدام ضد الشباب، بينما الألوف في المعتقلات لا يدري ذووهم عنهم شيئًا ولا يعلمون مصيرهم.
ختامًا
يا سادتي، نحن نعيش اليوم أسوأ فصول المأساة السودانية، مأساة صنعتها الحركة الإسلامية وابنها المدلل الدعم السريع. وليس من المقبول أن ننجرّ وراء صراعات عبثية تقوم على الكذب والتخوين بينما الوطن يتهاوى، يحدق فينا بعين طفل مريض يستصرخ والديه العاجزين. إن إنقاذ السودان لا يتحقق إلا بمحاصرة طموحات الإسلاميين والدعم السريع معاً، والالتفاف حول مشروع وطني جامع، ينتصر فيه الوطن على الأجندات الذاتية، ويحقق للشعب حلمه في بناء دولته المدنية الديمقراطية.